آراء وتحليلات
امريكا تترك هايتي فريسة للكوليرا.. والعالم يتفرج
د. علي دربج - باحث وأستاذ جامعي
من جديد تعود "هايتي" الى الواجهة، ولكن هذه المرة من بوابة مرض الكوليرا الذي يفتك حاليًا بأهلها، الذين لم يعيشوا يومًا بسلام أو رخاء كغيرهم من الشعوب. وكأنه كتب عليهم أن يكونوا دائمًا تحت رحمة الغزاة مهما تعددت أصنافهم وأنواعهم، سواء كان الغازي على شكل وباء، أو مستعمر بدءا من الفرنسي، مرورًا بالاسباني، وانتهاءً بالأمريكي، وجميعهم أهلكوا الحرث والنسل في هذا البلد واستعبدوا مواطنيه، لا سيما جنود المارينز ممن احترفوا مهنة السطو على هذه الدولة الجارة، وعاثوا فيها خرابًا وفسادًا ونهبوا ثرواتها، وفي كل مرة كانوا يرحلون ثم يعودون ويكررون استباحتها.
هذه الأيام، تكافح هايتي وحيدة بسبب الأزمات السياسية والإنسانية التي تعصف بها، والناجمة عن اغتيال الرئيس جوفينيل موس في عام 2021 الذي لم يُحل لغزه بعد. فيما الولايات المتحدة ومعها فرنسا، لا تحركان ساكنًا لمساعدتها في محنتها الصحية، رغم أن هاتين الدولتين الاستعماريتين، تعدان مسؤولاتين بشكل مباشر عن فقر وتخلف هذه الدولة، بعدما نهبتا جميع خيراتها ومدخراتها، وجعلتاها متأخرة مئات السنوات عن غيرها من الأمم المتطورة.
ما هي المخاطر الصحية التي تتعرض لها هايتي؟
في الواقع، كأنه لا يكفي معاناة هايتي، أفقر دولة في النصف الغربي من الكرة الأرضية، حتى تكون أيضًا من بين أكثر البلدان عرضة للأوبئة التي تعتبر التهديد الأكبر للصحة العامة في ذلك البلد.
أحد المخاطر الصحية وهو وباء الكوليرا الذي اجتاح هايتي خلال الأشهر الثلاثة الماضية، مما تسبب في مرض الآلاف، وقتل المئات.
المثير في الأمر أن عدد الحالات المشتبه باصابتها، في هايتي، تقترب في هذه الفترة ــ ربما جزء بسيط من الإجمالي الحقيقي، نظرا لضعف التغطية الصحية العامة والإبلاغ المتقطع ــ من 15000 حالة إصابة بالكوليرا. في حين لقي ما يقرب من 300 شخص حتفهم وفقًا لمنظمة الصحة العالمية. أما الأكثر خطورة، فهو أن الكوليرا انتشرت الآن في كل مركز سكاني مهم في البلاد بحسب المنظمة.
وبالرغم من أنه في منتصف كانون الاول/ ديسمبر الماضي وبعد شهرين من اكتشاف الحكومة لتفشي الكوليرا، وصلت اللقاحات إلى البلاد، لكن الفوضى التي تفرضها العصابات المسيطرة على جزء كبير من هايتي، تشير الى أنه من غير المرجح أن يتم توزيع هذه اللقاحات خارج العاصمة، وبالتالي حتمًا، سيموت المزيد من الهايتيين بلا داع.
ماذا عن الأسباب التي ساهمت في تردي الأوضاع الصحية في هايتي؟
لا ينبغي أن تكون الأزمات المتصاعدة في هايتي منذ مقتل مويس في تموز/ يوليو 2021، بما في ذلك التدهور الإنساني المحزن في البلاد، مفاجأة. إذ ترك الاغتيال فراغاً في الشرعية السياسية.
فالرئيس أرييل هنري ـ الذي تم تنصيبه بدعم من واشنطن وأصحاب المصلحة الدوليين الآخرين في هايتي ـ يفقتر إلى الدعم الشعبي. زد على ذلك أن الحكومة الضعيفة بالفعل أصبحت غير فعّالة.
علاوة على ذلك، يقف الرئيس هنري عاجزًا عن محاربة العصابات الإجرامية العنيفة المرتبطة بالمصالح التجارية الهايتية، التي تفرض سيطرتها على أجزاء رئيسية من البلاد بما في ذلك ما يقدر بنحو 60 بالمائة من العاصمة.
ليس هذا فحسب، فمنذ منتصف أيلول/ سبتمبر الماضي، شلّت إحدى العصابات الأكثر شهرة المعروفة باسم G9 المنطقة المحيطة بمحطة الوقود الرئيسية في العاصمة بورت أو برنس. وبناء على ذلك، قالت السلطات الصحية الدولية إن حصار محطة الوقود كان السبب في انتشار وباء الكوليرا، خصوصًا بعدما تعطلت حركة النقل إلى حد كبير، مما تسبب بتوقف وانقطاع شحنات مياه الشرب النظيفة التي كانت تصل الى السكان.
وما زاد الطين بلة أن العصابات المسلحة أغلقت أيضًا مساحات شاسعة من الأراضي والمرافق، بما في ذلك العديد من مدارس البلاد وتسببت في فوضى بنقل السلع الأساسية. كما أن الرحيل الهادئ لمنظمات الإغاثة غير الحكومية بما في ذلك تلك الموجودة في الولايات المتحدة أدى إلى تفاقم حالة الطوارئ الإنسانية في البلاد، وترك الشرائح الأفقر والأكثر مرضًا من السكان عرضة للاصابة، وأحيانًا الوفاة.
أكثر من ذلك، أدت هذه الأوضاع إلى تصاعد الفوضى وتدهور الصحة العامة في بلد يعيش فيه ما يقرب من 90 بالمائة من أصل 11.5 مليون شخص، على أقل من 7 دولارات في اليوم، فيما يكافح 30 بالمائة على دخل يومي بالكاد يزيد عن دولارين. كما يعيش ما يقرب من نصف السكان مع ما تعتبره الأمم المتحدة انعدام الأمن الغذائي الحاد. ويواجه نحو 20 ألفًا آخرين المجاعة.
ماذا عن دور الولايات المتحدة الإغاثي؟
في الحقيقة، كان يمكن لواشنطن أن تفعل المزيد لإعاقة انتشار مرض يمكن علاجه سريعًا. وفي هذا الاطار، يعتبر المراقبون أن سياسة عدم الاكتراث هي هزيمة ذاتية لإدارة الرئيس جو بايدن التي واجهت طوفانًا غير مسبوق من عابري الحدود غير الشرعيين خلال العام الماضي، بما في ذلك موجات من الهايتيين. ولهذا يحذر الخبراء الأمريكيون الآن من أن الانتشار السريع للكوليرا، قد يؤدي إلى تعميق يأس الهايتيين لمغادرة بلادهم، وبالتالي، شق طريقهم نحو الولايات المتحدة.
الأسوأ بل الفضيحة الكبرى أن كل ما قدمته الولايات المتحدة كان من خلال الوكالة الأمريكية للتنمية الدولية، التي نشرت ابتداءً من منتصف تشرين الأول/ أكتوبر الماضي، "فريق استجابة للكوارث" لم يتجاوز عديده سبعة أشخاص للعمل على الأرض في هايتي، متذرعة أن قدراتها غير كافية، مع معرفتها أن هذا الفريق، يحتاج إلى موارد وموظفين إضافيين. وفوق ذلك كله، فشل الرئيس بايدن في تعيين سفير له في هايتي، أو حتى تعيين دبلوماسي رفيع المستوى في العاصمة الهايتية.
هناك حاجة ماسة لمساعدة هايتي على مكافحة تفشي الكوليرا، وذلك بالنظر إلى دروس التاريخ الحديث، إذ انه بين عامي 2010 و2019، بعد ظهور الوباء هناك من قبل قوات حفظ السلام التابعة للأمم المتحدة من نيبال تم الإبلاغ عن أكثر من 800000 حالة في البلاد. كما توفي أكثر من 9000 شخص، في واحدة من أسوأ حالات تفشي المرض في هذا القرن.
من هنا، كان ذلك بمثابة تذكير بقابلية هايتي الشديدة للتعرض لأضرار الكوليرا وكذلك بمسؤولية الأمم المتحدة التي يجب أن تتحمل العبء الأخلاقي المتمثل في رفع مستوى البنية التحتية للمياه والصرف الصحي غير الكافية في هايتي.
أما المجتمع الدولي فلا يزال غائبًا، خصوصًا إدارة بايدن وجيران هايتي الأثرياء، الذين لم تهتز ضمائرهم جراء هذه النكبة التي تحلّ بهذا البلد. والمؤسف حقًا، هو أنه ربما لو كان أهلها من أصحاب البشرة البيضاء، لكنا رأينا حملات البكاء والنواح تجتاح شاشات العالم أجمع.
إقرأ المزيد في: آراء وتحليلات
21/11/2024
خطاب الأمين: قوةٌ وتمكين ونصرٌ وتطمين
19/11/2024