آراء وتحليلات
استهداف العمق الروسي بمسيّرة أوكرانية.. أي أبعاد عسكرية واستراتيجية؟
شارل ابي نادر
أعلنت وزارة الدفاع الروسية أمس أن دفاعاتها الجوية تصدت لطائرة مسيّرة تابعة للقوات الأوكرانية في مقاطعة ساراتوف، وتحديدًا فوق مطار انغلز العسكري (يبعد حوالي 900 كلم عن دونيتسك حيث أقرب خط تماس بين الوحدات الروسية والوحدات الأوكرانية). وبحسب المصادر العسكرية الروسية فإن سقوط حطام الطائرة التي تم استهدافها فوق القاعدة، تسبب في مقتل 3 عسكريين.
الانطباع الأول بالنسبة لأي مراقب لما يحصل في الحرب الدائرة اليوم بين روسيا وأوكرانيا، والمدعومة بشكل واسع ومباشر من الناتو، يمكن أن يعتبر أن أي استهداف لأي قاعدة عسكرية روسية مفهومًا وطبيعيًا، حتى لو في العمق داخل روسيا، وعلى أي مسافة كانت، حيث الحرب أصبحت مفتوحة بين الطرفين، واستهداف عمق كل طرف يعتبر أمرًا مطلوبًا ومنتظرًا وطبيعيًا، وبمعزل عن خصوصية الهدف ونوعه.
لكن، يُجمع أغلب المتابعين والمراقبين على أن الحادثة غير عادية، ويعطونها اهتمامًا لافتًا معتبرين بأنها يمكن أن تأخذ طابعًا استثنائيًا ومختلفًا بشكل كبير عن المسار الذي طبع العملية العسكرية الروسية في أوكرانيا حتى الآن، فما هي المعطيات التي تقرب هذا الاجماع والتي يمكن أن تجعل من الحادثة استثنائية، وتدعو للتوقف عندها والإضاءة عليها؟
من الناحية العسكرية، يرى البعض أن هناك فشلًا في منظومات الدفاع الجوي الروسية والمعروفة بفعاليتها عادة في منع وصول المسيّرة الأوكرانية إلى قاعدة انغلز الخاصة بالقاذفات الإستراتيجية، والتي تُعتبر قاعدة ايواء وإدارة عمليات وإطلاق لأسراب مختلفة من هذه القاذفات، مثل سوخوي ٣٥ أو سوخوي ٥٧ أو توبوليف ٢٢. ويضيف هؤلاء إنه حتى مع تصريح الروس بأن المسيّرة استُهدفت وتم تدميرها في الجو، ونتيجة حطامها أدت الى مقتل ٣ عسكريين، فإن وقوع هذا العدد وبسبب حطام المسيّرة المدمرة، يُعتبر وكأن الهدف من اطلاقها قد تحقق ولو جزئيًا.
بينما ينظر البعض الآخر، بأن الحادثة يمكن أن تحصل، حتى بوجود منظومات دفاع جوي روسية فعالة، حيث أن نسبة نجاح المسيّرات في المواجهات العسكرية الدائرة حاليًا حول العالم، ترتفع بشكل مقبول، ولأسباب عدة، تتعلق بقدرة سلاح المسيّرات بشكل عام على تجاوز أكثر منظومات الدفاع الجوي تطورًا، بالاضافة إلى أن أي سلاح تستخدمه الوحدات الأوكرانية اليوم بمواجهة الروس، يحظى بمواكبة توجيهية وتقنية مباشرة من وحدات "الناتو"، لناحية التشويش الفعال على أسلحة الروس، أو لناحية التوجيه عبر الأقمار الصناعية العسكرية الغربية، والمستنفرة اليوم بشكل كامل فوق أجواء أوروبا وروسيا.
بمطلق الأحوال، وبمعزل عن هذا الاختلاف في النظرة للحادثة بين الفريق الأول والفريق الثاني، أي بين من يرى فيها فشلًا للروس، أو بين من يعتبرها حادثة ممكنة وتحصل بكل بساطة، من الضروري الاضاءة على النقاط الأخرى، والتي تجعل من العملية استثنائية.
من غير الوارد أو غير المنطقي أن تحصل عملية اطلاق المسيّرة واستهداف العمق الروسي بنجاح، ولهدف استراتيجي مثل قاعدة انغلز من دون مساعدة تقنيّة أطلسية، وهذه المساعدة التقنية الأطلسية أيضًا، من المستحيل أن تحصل من دون قرار أطلسي، وأميركي تحديدًا.
فما الذي تغيّر اليوم لكي يسمح الأميركيون بهذه العملية ويقدّموا عناصر نجاحها طبعًا؟ بعد أن كانوا جدّ متشددين على منع الأوكران من نقل المعركة إلى العمق الروسي، حيث كانوا دائمًا يرفضون طلب الرئيس الأوكراني بتزويد وحداته بأسلحة وقدرات بعيدة المدى، حتى أنهم أجروا تعديلات على مدى المنظومة الصاروخية الفعالة هيمارس، لكي لا يتم استعمالها من قبل الاوكران لاستهداف عمق الاراضي الروسية.
في الواقع، هناك اتجاهان لهذا التغيير في استراتيجية الأميركيين حول استهداف الاراضي الروسية، وهما:
الاتجاه الأول، ويمكن عدم استبعاد العامل الاسرائيلي عنه، حيث يأتي التدخل التقني الاسرائيلي(المخفي) بموافقة أميركية طبعًا في انجاح استهداف قاعدة انغلز الروسية بمسيّرة أوكرانية (أو ربما تكون اسرائيلية)، ليشكل رسالة عن امتعاض الصهاينة ومن ورائهم الأميركيين، من مساهمة الروس المباشرة وغير المباشرة، في خلق الفرصة لتطور القدرات الايرانية وتقدم فعاليتها، وخاصة المسيّرات، والتي تكسب من الحرب في أوكرانيا الكثير من النقاط التي ستكون عاملًا منتجًا لتفوقها في أي مواجهة مرتقبة بين "تل ابيب" وطهران.
الاتجاه الثاني، ويرتبط حكمًا بزيارة زيلنسكي الى واشنطن واستقباله من قبل الرئيس بايدن، حيث تشير بعض المعطيات (والاعلامية الغربية تحديدا)، إلى ظهور بعض الاختلاف والتناقض في النظرة بين الرئيسين لما يمكن ان يسلكه مسار المواجهة في روسيا، حيث يميل الرئيس الاميركي الى الطلب من الرئيس الاوكراني، بان يسهل من امكانية سلوك مفاوضات منتجة والذهاب إلى تسوية سياسية، والسبب يبقى في بدء نفاذ قدرة التحمل الأميركية على متابعة دعم اوكرانيا في هذه الحرب، ماليا وسياسيا، وفي تعاظم الضغوط لانهاء الحرب، الضغوط الداخلية الاميركية والضغوط الاوروبية الواسعة، فكانت الموافقة الاميركية على: إرضاء زيلنسكي معنويا بتنفيذ عمل عسكري ناجح داخل روسيا، وعلى تنفيذ استهداف ناجح لقاعدة انغلز، ليكون بمثابة رسالة ضغط، تجعل الروس يعيدون حساباتهم بعد اظهار، واثبات، امكانية دعم الاوكران باسلحة قادرة على التأثير، ولو بشكل جزئي على العمق الروسي.
ويبقى الموقف الروسي من مقاربة هذا الأمر هو الموقف الفاصل. فهل ترضخ موسكو لرسالة استهداف قاعدة انغلز وتذهب نحو مفاوضات متكافئة، الأمر المستبعد بنسبة كبيرة ولو مع وجود امكانية لحصوله؟
أم أن استهداف قاعدة انغلز سيكون بالنسبة لموسكو نقطة فاصلة نحو تطوير المواجهة، والتي حتى الآن ما زالت تعنونها بـ: عملية خاصة في اوكرانيا، لتصبح حربًا واسعة ضد اوكرانيا وداعميها بكل ما تحمله من عناصر وقدرات؟ وهو الأمر الأكثر احتمالًا بتقديرنا.
إقرأ المزيد في: آراء وتحليلات
21/11/2024
خطاب الأمين: قوةٌ وتمكين ونصرٌ وتطمين
19/11/2024