آراء وتحليلات
في وداع عام.. حصاد أم بذور؟
أحمد فؤاد
لا يحتاج متابع مشغول أو مراقب مهتم إلى مقدمات من أي نوع حتى يقول مطمئنًا إلى صدق القول، إن العام 2022 الذي يوشك على الرحيل يمثل مرحلة كاملة في تاريخ المنطقة ولحظة فارقة في واقع الشعب العربي، ثم هو يمثل نهاية طرق متعددة ومتوازية في السياسة العربية، أو الرسمية على الأقل، وبالتالي فإن الحديث لا يدور عن حصاد أيام عام مضى، بل الأقرب أنه استشراف لبذور تنبت وتربة تحتها تضج بالظروف والتغيرات.
وإذا كان شاغلنا الأساس هو قضية فلسطين باعتبارها جرحًا وطعنة في الظهر، ثم باستمرارها في الحاضر الراهن وحتمية حلها في المستقبل، إذا ما أردنا أن نمضي إلى مستقبل من نوع ما، فالحديث عنها واجب يحتمه الحساب وضرورة تفرضها التساؤلات المشروعة حول ما أضفناه لها خلال عام مضى، وما نستطيع أن نحمله إليها، أو تمنحه الأيام لها ولنا في عام جديد.
وإذا كان العلم الفلسطيني الحاضر دائمًا في خلفية بطولة كأس العالم الحالية الجارية بقطر، يعد انعكاسًا أكثر منه فعلًا على صفحة الحوادث، فإن القضية الفلسطينية شهدت خلال العالم الحالي ما جعلها تستقطب الأعين والقلوب، وتستثير العواطف وتهزم الكبت والقمع الرسمي لذكرها والتفاعل معها، وبعض ما تحقق على الأرض كان يعد حلمًا بعيد المنال خلال السنوات الماضية، وما حدث يستحق وقفة ترصد وتحلل وتقدر الموقف الجديد.
يقول عالم النفس الكندي الأشهر غوردان بيترسن إن وصف الواقع بشكل صحيح هو المفتاح السليم للفعل أو الطريق المناسب، كما وهو أول شروط عملية معرفة النفس والمحيط، وبالتالي فهو الخطوة الأولى نحو قدرة الإنسان على اختيار ما يريده حقًا. وإذا كان الأمر يتعلق بفلسطين، فإن الواقع يقول إننا في حضرة حالة تتجسد فيها العقيدة والمبدأ والقضية، وبقدر ما تمثل تحديًا هائلًا على المستوى الإنساني والوطني والإقليمي، فإنها أيضًا تحمل مفاتيح حلحلة الكثير جدًا من أزماتنا.
خلال العام الماضي 2021، كان أهم ما تحقق على صعيد النضال الوطني الفلسطيني هو عملية سيف القدس، وثبتت المعارك والمواجهات التي شهدتها أيام تصاعد الأحداث في غزة والضفة الغربية والقدس، ما يمكن القول إنه معادلة جديدة أعادت الربط بين كل أرض فلسطين التاريخية، وصولًا إلى الأراضي المحتلة في 1948، ومنحت الإحساس بقدرة الإنسان الفلسطيني على مجابهة أسوأ احتلال سرطاني في العصر الحديث بكفاءة، وردت بالتالي الثقة إلى النفوس وزنود الرجال.
وزاد العام الحالي من فرص وإمكانيات المواجهة، ومن حيث لا يحتسب الكيان الشيطاني، فإذا بحمى التطبيع التي أرادها دليلًا على بقائه تنقلب ضده، وفي قلبه، فالتهافت العربي الرسمي على القبول بالوجود الصهيوني، والتسليم الكامل له، والإذعان للرغبة الأميركية في تصفية كل ما يتعلق بهذا الوجود من شوائب أو بقايا فكرة المقاطعة، قد رسخ في ذهن كل فلسطيني أن السلاح هو الحل، وأن حتمية النصر مرهونة فقط بإرادة المواجهة.
وجاءت سخونة صراع حزب الله ضد الكيان في معركة "كاريش"، بمثابة البخار الذي اندفع في شرايين وعروق الجسد الفلسطيني الجاهز، وساعد تصاعد الأحداث وفرص الصدام الوشيك في تحويل معركة الإرادة حول موارد الأمة وثرواتها المنهوبة إلى عامل محفز داخل الشارع الفلسطيني، وقبل نقطة الصدام، ومع التراجع الصهيوني في مواجهة حزب الله، والتسليم بشروطه تحت ضغط السلاح، جاء النصر كعاصفة اأقتلعت كل شك ممكن في احتمالات تأجيل الصراع أو تفاديه على أرض فلسطين.
ببساطة، ودون العودة إلى تفاصيل تلك الأيام المهيبة، والمجيدة، فإن القاعدة التي رسخها صراع حزب الله مع الكيان، هي أن كل طرف قادر على انتزاع حقوقه المشروعة، فقط إن تحلى بالإرادة والشجاعة لانتزاعها، وأن الطرف العربي الرسمي، سواء كان السلطة المشلولة في رام الله أو الأنظمة التابعة في العالم العربي مجرد دمى بيد الأميركي والصهيوني، لا تملك من أمر نفسها شيئاً، فضلًا عن أن تحوز القدرة على التأثير في قضية كبرى أو صراع إقليمي، وبالتالي فإن اليد الفلسطينية وحدها، وفي كل شبر من أرض فلسطين كلها، هي القادرة على مجابهة هذا الواقع، ومن ثم تجاوزه.
نقلت المقاومة الفلسطينية المعنى الأصيل والقيمة العظمى التي حملها حزب الله في كل مواجهاته مع العدو الصهيوني، الفداء والصبر، كعناوين أساسية للعمل المقاوم، والنضال اليومي والكفاح المستمر، وهي الراية التي تخفق عاليًا فوق الرؤوس، وتحمل الأرواح المجاهدة إلى طريقها السليم، وتسير عبر أودية التيه والأزمات والمعارك إلى وادي الخلود، وبقدر ما تقدم من التضحيات والدماء الزكية، فإنها تكون قادرة على الوصول إلى النصر.
اليوم، ومع اقتراب العام من نهايته، تبدو نتائج الفعل الفلسطيني الهادر قد غيرت الكثير من الحقائق على الأرض، فالعمليات البطولية النوعية، بطول فلسطين وعرضها، جعلت الجيش الصهيوني يحشد نصف قواه في الأرض المحتلة، محاولًا أن يدافع عن مستوطناته ومدنه المهددة، وفي الواقع، فإنه عاجز حتى عن الدفاع عن نفسه.
في أي مواجهة كبرى قد تقع في المنطقة، وهي واقعة بعد المدى أم اقترب، فإن هذا الجيش المستنزف في الداخل، والذي يفقد قدراته القتالية، وتبهت سمعته التي حاول ترسيخها منذ عملية زراعة الكيان، قد يسقط ويجر معه كيانه، قبله أو معه، إلى مجاهل التاريخ، فأي قوة مهما بلغ مداها ومهما تعاظمت قدرتها وتسليحها عاجزة في مواجهة الإيمان والثبات، وأي خسارة مهما بدت كبرى في الصراع هي وقود يلهم وبطولة تخلد، ودافع يمنح المقاومين المزيد والمزيد من الأسباب الإلهية للاستمرار في الكفاح.
أخيرًا.. إذا كان الحديث عن فلسطين فلا بد من أن ينجرف القلب والقلم تلقائيًا إلى عماد أحلامها، القائد الشهيد عماد مغنية، بمناسبة أو من بدونها تبقى سيرته مرجعًا ثابتًا في كل مرحلة من مراحل نضال الشعب الفلسطيني، وفي كل لحظة يزف فيها المجد شهيدًا جديدًا لها إلى السماء.
وإذا كانت الكتابة هي محاولة لتأطير، أو حتى تخليد، شخصية أو لحظة فارقة في التاريخ، وبالتالي محاولة التركيز على الجمال، في شخصيات ولحظات هي بذاتها خلاصة الجمال والعظمة والبهاء، فعل الله المباشر في الأرض حين يعز الفعل ويعجز، فإن الكتابة عن الحاج رضوان وأسطورته الباقية كافية جدًا لفتح طاقة من نور في جبين الأيام.
وكما أن الشهادة هي تتويج لمسيرة نضال صعب، وطريق طويل، فإنها كانت أيضًا استنطاقًا لصيحة الله من قعر جحيم اليأس، ومنح كل مؤمن إمكانية معاينة الانتصار، وحتميته، وهي واحدة من أمجد وأعز اللحظات، والشهيد القائد هو أنبل تصوير ممكن لحدود التدخل الإلهي العظيم، وقدرات فعلها التي تفوق بمراحل قدرات حلمنا، ولحظات الإلهام والمدد السماوي، التي لولاها كانت لتكون حياة باهتة باردة، وتقريبًا بلا روح.
إقرأ المزيد في: آراء وتحليلات
21/11/2024
خطاب الأمين: قوةٌ وتمكين ونصرٌ وتطمين
19/11/2024