آراء وتحليلات
الشرطة الامريكية "تتفوق" على العصابات: قتل 1000 مواطن سنويا
د. علي دربج باحث ومحاضر جامعي
غداة مقتل أي مواطن بريء في دولة ما من دول العالم (خصوصا إذا كان مناهضا للسياسات الامريكية) على يد عناصر الشرطة سواء عن قصد او دونه، على الفور تثور ثائرة الغرب، لا سيما واشنطن، ضد البلد "المتهم"، وتعمد الى استغلال هذه الحادثة، وتحولها الى قضية رأي عام دولي، وتبدأ بالعويل والنحيب ورفع راية المساءلة والمحاسبة للمسؤولين فيه، وضرورة تعليمهم الديموقراطية وفرض المحاسبة وصولا الى فرض العقوبات عليهم، ناهيك عن التهديد بتحرير ذاك البلد، والتحريض على نظامه وحكامه، بغية الاطاحة بهم.
حسنا، بعيدا عن الاتهامات لامريكا، او استحضار تاريخها تجاه الدول والأمم الاخرى، والذي يقرّ حتى كتّابه من الامريكيين بدمويته وأهواله، نسأل هنا، وبلغة الحرية والديقمراطية وحقوق الانسان نفسها ـ التي تعتبرها امريكا ميزانا ومقياسا للحكم على هذا البلد او ذاك الحاكم او الرئيس ـ وفق أي شريعة او قانون او دستور او قاموس، تطالب واشطن بمحاسبة الاخرين وتقديمهم للعدالة، فيما هي تغطي وتتستّر على شرطتها الملطخة ايادي المئات من ضباطها وعناصرها، بدماء آلاف الابرياء من المدنيين الامريكيين، بل انها تمنحهم حصانة تقيهم الملاحقة او السجن؟
ولكي يكون كلامنا موثقا، فلنلجأ الى الارقام، ونكتشف معا نسبة حوادث اطلاق النار العمد، التي اقدمت عليها مؤسسات انفاذ القانون الداخلي للولايات المتحدة (الشرطة)، تجاه المواطنين الامريكيين، خصوصا أصحاب البشرة السمراء واللاتينيين منهم، وكيفية تعاطي واشنطن مع هذه الظاهرة المشينة.
ما عدد الوفيات التي يتسبّب بها رجال الشرطة الامريكية كل عام؟
في الحقيقة، تطلق مؤسسة الشرطة في الولايات المتحدة النار وتقتل حوالي 1000 شخص كل عام، وفقًا لإحصاء وتحليل (مستمر) أجرته صحيفة "واشنطن بوست". (اشارة الى ان هذا الرقم هو المعدل الوسطي للوفيات).
فبعد مقتل مايكل براون، وهو رجل أسود غير مسلح، في عام 2014 على يد الشرطة في فيرجسون بولاية ميزوري، وجد التحقيق أن البيانات التي أبلغت (من قبل اقسام الشرطة) إلى مكتب التحقيقات الفيدرالي بشأن إطلاق النار المميت على أيدي عناصر الشرطة، أقل من النصف.
اللافت ان هذه الفجوة اتسعت في السنوات الأخيرة، إذ قتلت الشرطة أكبر عدد على الإطلاق في عام 2021، لكن حوادث إطلاق النار القاتلة التي بادرت اليها ادارات الشرطة الامريكية، ظهر منها حوالي الثلث فقط، في قاعدة بيانات مكتب الـ FBI. اما السبب، فيعود وبدرجة كبيرة إلى أن أقسام الشرطة المحلية ليست ملزمة بإبلاغ الحكومة الفيدرالية بهذه الحوادث.
أكثر من ذلك، على الرغم من أن نصف الأشخاص الذين قتلوا على أيدي الشرطة هم من البيض، إلا أن إطلاق النار على الأمريكيين السود، سجل معدلا غير متناسب. ومع ان اصحاب البشرة السمراء يمثلون حوالي 14 في المائة من سكان الولايات المتحدة، غير أنهم يُقتلون على أيدي الشرطة بأكثر من ضعف معدل الأمريكيين البيض، كما يُقتل الأمريكيون من أصل إسباني على أيدي الشرطة بنسبة متفاوتة.
ليس هذا فحسب، إذ ان معظم الضحايا هم من الشباب، حيث أكثر من نصف الأشخاص الذين قتلوا برصاص الشرطة تتراوح أعمارهم بين 20 و40 عامًا.
ماذا عن ارقام السجلات الفيدرالية لحالات إطلاق النار للشرطة الامريكية؟
على الرغم من أن السجلات الفيدرالية تشير إلى أن حوادث إطلاق النار المميتة من قبل الشرطة قد تراجعت على الصعيد الوطني منذ عام 2015، فإن قاعدة البيانات التي انشأتها "واشنطن بوست"، تكشف أن العكس هو الصحيح، حيث تظهر على الشكل الاتي:
أطلق ضباط الشرطة الامريكيون النار وقتلوا المزيد من الأشخاص كل عام ، ووصلوا إلى مستوى قياسي في عام 2021 مع 1047 حالة وفاة. على الضفة الاخرى، تحتوي قاعدة بيانات مكتب التحقيقات الفيدرالي على حوالي ثلث حوادث إطلاق النار المميتة التي نفذتها الشرطة والتي بلغت 7000 شخص خلال الفترة (من 2015 حتى 2021) اي بانخفاض عن النصف، عندما بدأت الصحيفة في تعقب البيانات المخفية لاستخدام الشرطة للقوة المميتة.
الغريب في الامر، ان عمليات إطلاق النار القاتلة التي اقدم عليها الضباط، اختفت من السجلات الفيدرالية، في ما لا يقل عن 2250 قسمًا من أقسام الشرطة، وعُمدة الشرطة، في السنوات السبع الماضية.
الانكى ان البيانات غير الكاملة، تحجب أيضًا تناقضًا عرقيًا بين القتلى على أيدي الشرطة أكبر مما تشير إليه البيانات الفيدرالية، حيث يُقتل السود من قبل الشرطة في كثير من الأحيان، أكثر بكثير مما يتضح في بيانات مكتب التحقيقات الفيدرالي، ويصل الى أكثر من ضعف معدل الأشخاص البيض.
من بين البيانات المفقودة: إطلاق النار من قبل ضباط في 440 إدارة شرطة، كانت قد تلقت حكوماتها المحلية ما يقرب من 90 مليون دولار من المنح الفيدرالية لتتبع بيانات الجريمة والإبلاغ عنها، إضافة الى حوادث إطلاق النار من 700 إدارة أخرى، تفرض القوانين المحلية إبلاغ سلطات الدولة بعمليات القتل المرتكبة.
من أبرز الولايات الامريكية المتورطة بالتستر على الشرطة، واخفاء اعمال القتل التي ارتكبها ضباطها وعناصرها؟
كانت ولاية بوسطن من بين الإدارات الأكبر التي تفتقر إلى البيانات: وثق التحقيق 11 حادث إطلاق نار قاتل، على يد ضباطها منذ عام 2015 ، ولكن لم يتم تسجيل أي منها، في سجلات مكتب التحقيقات الفيدرالي. وبالمثل، أبلغت إدارة شرطة شيكاغو عن ست عمليات إطلاق نار قاتلة شارك فيها ضباط، لكن الصحيفة سجلت 45، وفي مدنية بويز اكبر مدن ولاية أيداهو، جرى اطلاق النار على 12 شخصًا تم قتلهم، لم تسجل وفاتهم في قاعدة بيانات مكتب الـ FBI.
ما يجدر معرفته، ان مكتب التحقيقات الفيدرالي FBI، يطلب من حوالي 18000 إدارة لإنفاذ القانون في جميع أنحاء البلاد، الإبلاغ عن جميع جرائم القتل - بما في ذلك تلك التي يرتكبها الضباط المناوبون - بحيث يمكن استخدام المعلومات للبحث وإتاحتها للجمهور، لكن المفاجأة ان هناك حوالي 290 إدارة محلية فقط، أبلغت مكتب التحقيقات الفيدرالي عن حوادث إطلاق النار المميتة التي نفذتها الشرطة منذ عام 2015.
اما في بلدة فاليجو بكاليفورنيا التي يبلغ عدد سكانها 120 ألف نسمة، فقتلت الشرطة بالرصاص، ستة أشخاص في السنوات السبع الماضية، غير ان سجلات مكتب التحقيقات الفيدرالي لم تتضمن أيًا منها.
ماذا تتضمن قصص الابرياء الذي قتلتهم الشرطة الامريكية؟
في الواقع ان مستوى الوحشية الذي وصل اليه عدد كبير من ضباط وعناصر الشرطة في الولايات المتحدة، يفوق حتى الانظمة التي تصنفها امريكا بالديكتاتورية او الفاشية او حتى سلوك رجال العصابات. واليكم بعض النماذج.
كان ويلي ماكوي، مغني الراب البالغ من العمر 20 عامًا، من بين الأشخاص الذين تم قتلهم بوحشة من قبل الشرطة التي عثرت في عام 2019 على مكوي، إما نائمًا أو فاقدًا للوعي، في سيارته في ممر بجانب مطعم للوجبات السريعة وفي حضنه بندقية وفقًا لتقرير المدعي الخاص عن إطلاق النار. أكد التقرير إن الضباط أمروا مكوي برفع يديه، وعندما استيقظ مكوي، اعتقدوا أنه كان يمد يده إلى البندقية، فأطلقوا النار عليه 55 مرة وقتلوه.
الغريب، ان التقرير وجد أن الضباط الستة المتورطين، جرى تبرير جريمتهم قانونًا بالرغم من طرد أحد الضباط بسبب تعامله مع سلاحه الناري بطريقة قال المسؤولون إنها كانت ستعرض ضابطًا آخر للخطر. بالمقابل تشكك أسرة مكوي في أنه كان يحمل مسدسًا فضلاً عن بندقية في حضنه، ورفعت دعوى حقوق مدنية وموت غير مشروع في محكمة فيدرالية، لكن الدعوى ما زالت معلقة.
الطامة الكبرى، ان وفاة مكوي وخمسة آخرين، غائبة عن قاعدة البيانات العامة لمكتب الـ FBI.
علاوة على ذلك، هناك حكاية مواطن امريكي يدعى ميشيل وايت 53 عاما، قتله نائب عمدة الشرطة في مقاطعة بوب ـ أرك في ولاية إلينوي في عام 2020.
كان وايت مخمورًا ومذهولًا عندما طلب أفراد العائلة المساعدة من السلطات الرسمية، على الفور وصل نائب العمدة إلى منزل الأسرة، وقام بتجهيز مسدسه الصاعق، بينما سحب وايت سكينًا قابلا للطي، وفقًا لتقرير صادر عن المدعي العام بالمقاطعة. وعندما تحرك وايت، في هذه اللحظة وضع النائب مسدسه الصاعق، جانبا، ووجه بندقيته نحوه بدلاً من ذلك، ثم صرخ في وايت للتوقف عن الحركة، ليطلق بعدها أربع طلقات، أردت وايت جثة هامدة على الارض.
لاحقا، رفض المدعي العام توجيه الاتهامات، وقرر أن إطلاق النار كان مبررا لأن الضابط اعتقد أن الصاعق لا يمكنه إيقاف وايت وهو يسير نحوه بسكين.
المثير ان وايت هو واحد من ثلاثة أشخاص قتلوا برصاص نواب عمدة مقاطعة بوب، على مدى السنوات السبع الماضية. كما ان جميع عمليات إطلاق النار الثلاثة كانت غائبة عن سجلات مكتب التحقيقات الفيدرالي.
في الختام أمام هذه الارقام، وإذا كانت امريكا تمتنع عن محاسبة شرطتها التي تقتل مواطنيها الأبرياء منهم والمشتبه بهم مزاجياً، هل من شك بعد، ان الارهاب هو سمة متجذرة في هذه الامبراطورية التي بات القتل والارهاب جزء من هوية نظامها وثقافته وحتى مؤسساتها الأمنية والعسكرية.
مكتب التحقيقات الفيدرالي الامريكي (FBI)جرائم الشرطة الامريكيةالشرطة الامريكيةالقتل خارج نطاق القضاء
إقرأ المزيد في: آراء وتحليلات
21/11/2024
خطاب الأمين: قوةٌ وتمكين ونصرٌ وتطمين
19/11/2024