معركة أولي البأس

آراء وتحليلات

هتلر الناتو الجديد (1/2)
28/10/2022

هتلر الناتو الجديد (1/2)

أحمد فؤاد

إذا كان هناك دليل مادي مطلوب، لكشف حقيقة هذا العالم الذي نعيشه، ونخضع لقوانين القوى الكبرى الفاعلة فيه، فإن الحرب الروسية في أوكرانيا، هو ذلك الدليل المادي المطلوب، وهي نسخة ــ أو مشهد ــ عن صراعات الغرب الكبرى طوال القرن الماضي، سواء في الحربين العالميتين أو في الحرب الباردة، وحتى في الموجة الهوجاء للهجوم الأميركي على الكوكب بحجة الحرب على الإرهاب في مطلع الألفية الجديدة.

في كل حروب الغرب، وعلى رأسه الولايات المتحدة الأميركية، كانت الدعاية هي طليعة القوات والضربة الافتتاحية في أي حرب، وبالقدر الذي تنجح فيه الدعاية في تجييش الرأي العام الغربي، وحشده، خلف الهدف المطلوب، تكون الآلة العسكرية الرهيبة هي الخطوة التالية مباشرة، ثم تقطيع أوصال الدولة المستهدفة، عقب احتلالها وسقوطها، أي أن الخطة الثلاثية لأي ضربة أميركية كان ملخصها: الأدوات الإعلامية تفتتح الطريق، القوات الجوية تسيطر، والدبابات تتجول في العواصم.

على سبيل المثال، وليس الحصر، كانت الولايات المتحدة تستخدم للحشد ضد صدام حسين خطابين إعلاميين متناقضين في الظاهر، وإن كانا يؤديا المهمة المطلوبة بتكامل وتناغم سحري سام، صدام مخبول وهو يعدم أفراد عائلته كالمجنون إذا ما راوده أدنى شك في ولاء أحدهم، وهو يقصف المدنيين المسالمين بالأسلحة الكيماوية، دونما مقتضى وبلا ذنب، وفي الوقت ذاته، صدام خبيث، يتمتع بقدر كبير من اللؤم ويجيد لعبة الخداع وحيل الحفاظ على أسلحة الدمار الشامل، ويزيد من وتيرة تطويرها تحت ستار كثيف من السرية، وهو بالتالي خطر على البشرية، والبشرية المقصودة هنا هي شعوب الغرب بالطبع.

وجاءت الفرصة الذهبية للأميركي، كمنحة دون جهد من النظام العراقي الغارق حتى أذنيه في الفساد والتربح، بتفجر مفاجأة لجوء صدام وحسين وصدام أبناء العم، وزوجي ابنتيه، إلى الأردن في عام 1996، ليفتحوا جروحًا لم تندمل في جسد العراق الجريح والنازف، ووقتذاك، صعق العالم كله ــ والعراقيين في المقدمة ــ من تفاصيل وحقائق عمليات التربح الحرام والمشينة خلال فترة الحصار الدولي على العراق، وبعد أن جر صدام بلاده إلى أتون عقوبات دولية منعت حتى الأدوية عن الأطفال، كانت الطبقة الحاكمة خلف قصور بغداد ذات الأسوار العالية، تتمتع بملايين الدولارات الحرام من التجارة في هذا الحصار الذي جلبته هي على شعبها.

ولم يعد المسرح مهيئاً فحسب للدخول الأميركي إلى بغداد، بعد ذلك التاريخ بأقل من 7 سنوات، في 2003 وإنما كانت العاصمة العراقية فارغة من الناس لحظة دخول القوات الأميركية إليها، وكأن الجماهير قد أسقطت مقدمًا من حساباتها أي فرصة للوقوف في خندق واحد مع هذا النظام، مهما كان العدو ومهما كانت العواقب، بينما انطلقت المقاومة العراقية المجيدة بعد سقوط صدام مباشرة، في إشارة لا تخطئها عين لمعدن شعب أصيل، وذكي.

لكن النموذج الأكثر اكتمالًا لجهد الدعاية الأميركية في الحرب، سوف يبقى لوقت طويل جدًا، الفوهرر أدولف هتلر، إذا كان هتلر يحتاج إلى أكثر من مجرد جهد يمارس على ديكتاتور تافه مثل صدام، وكانت النازية أيضًا تمتلك سلاحها الدعائي الخاص بقيادة أسطورة الدعاية والإعلام عبر كل العصور جوزيف غوبلز، وكانت المواجهة سجال بين طرفين قادرين على الدفاع بكفاءة والهجوم بقوة وقدرة استثنائيتين.

كانت الدعاية الأميركية ترتكز على ثوابتها ذاتها، هتلر ديكتاتور فاشي معتوه، والنازية وأفكارها خطر على الجنس البشري الأبيض، هذا من جانب، ومن جانب آخر، ركزت الدعاية على أسلحة ألمانيا الخارقة، التي كان في مقدمتها الصواريخ وغيرها من منتجات غيرت وجه الحروب، بل وبثت الإشاعات حول امتلاكه الأطباق الطائرة، وجاءت ضربة المفصل الهائلة بخطاب العالم الأشهر ألبرت أينشتاين، إلى رئيس الولايات المتحدة فرانكلين روزفلت، والذي حذرة من مساعٍ ألمانية جادة ومحمومة، تبذل لصناعة وامتلاك فنبلة نووية.

وكان لوجود الفيزيائي الشهير العبقري، فيرنر هايزنبرغ، صاحب مبدأ عدم اليقين في علم ميكانيكا الكم، والحاصل على جائزة نوبل في الفيزياء لعام 1932، على رأس الفريق الألماني العامل على مشروع القنبلة النووية النازية، وقع الصاعقة على الأميركيين، وفورًا تم البدء في تخصيص موارد غير محدودة، وضعت تحت تصرف فريق من 4 آلاف عامل، بقيادة أبو القنبلة النووية روبرت أوبنهايمر، وضم فريقه نخبة من أبرز علماء العالم، وكان الكثير منهم حائزين على "نوبل" في الفيزياء أو الكيمياء، تحت إشراف أينشتاين نفسه، وضم نيلز بوهر وأنريكو فيرمي وريتشارد فاينمان والسير جيمس تشادوك مكتشف النيوترون وإرنست لورنس مخترع معجل السيكلوترون، والألمانية ماريا مايرز.

ومن الجانب الألماني، كان البرنامج النووي النازي هو الآخر يذخر بالعلماء المبدعين، أصحاب المكانة والخبرة والسمعة، وكانت العلوم الألمانية ــ بشكل عام ــ قبل فترة الحرب العالمية الثانية مباشرة، تتفوق على نظيرتها الألمانية، وخلال الفترة التي تلت الإعلان لأول مرة عن جوائز نوبل في 1901، تصدر الألمان الفائزين بالفروع العملية للجائزة الأرفع، برصيد 4 جوائز في الكيمياء و11 في الفيزياء و9 في الطب، وبالتالي كان هناك الكثير مما يخيف الحلفاء في مساعي هتلر لامتلاك سلاح قادر على تغيير دفة الحرب، خصوصًا في السنتين الأخيرتين، التي تبدت فيها هزيمته الحتمية.

وجاءت التحذيرات مرة أخرى من البوابة النووية، لكن عبر "قنبلة قذرة"، قيل وقتذاك إن هتلر أمر بإعدادها واستخدامها فورًا، فيما لو بدا للقائمين على أمرها أن السقوط قادم ونهائي، وفي هذا الوقت البعيد من منتصف أربعينيات القرن الماضي، ورغم فشل نظام هتلر في توفير الموارد المطلوبة والمناسبة لإنجاز مشروع القنبلة النووية، وبالتالي منح الأولوية للحلفاء في امتلاك السلاح الذري، إلا أن البنية العلمية الألمانية فائقة الجودة والتطور، كانت قادرة بمنتهى البساطة على إنتاج هكذا سلاح بما تمتلكه وتحوزه بالفعل من وقود نووي.

فكرة القنبلة القذرة ببساطة هي كما يفصح اسمها عن جهاز تشتيت الإشعاعي "RDD"، أو قنبلة تقليدية، مكونة من متفجرات تقليدية تحيط بها كمية مناسبة من المواد المشعة، وهي حاليًا مستخدمة على نطاق واسع في مراكز البحوث والمؤسسات العلاجية والمفاعلات النووية، وهي تتجنب التكنولوجيا المعقدة لعملية الانشطار النووي، لكنها قادرة هي الأخرى على أن تكون سلاح تخريب شامل، تقتل بواسطة التفجير والإشعاعات السامة المركزة في الموجة الأولى، ثم تترك بقية آثارها المدمرة في الجو وعلى الأرض وداخل الماء، لتلوث بقعة جغرافية هائلة، وتحرمها من إمكانات الحياة مستقبلًا.

لكن السبب الوحيد الذي منع هتلر، غير المختل، من استخدام القنبلة القذرة أو بالأمر باستخدام الاحتياطي الألماني الهائل من الأسلحة الكيماوية المتقدمة، كان في سبب رئيسي واحد، وهو رد فعل الحلفاء على نقل الصراع إلى مدار جديد تمامًا، وغير تقليدي، مع سيادتهم الجوية الكاملة فوق مدن ألمانيا وكل شبر فيها، وهو ما جعله ــ بالإضافة لإيمانه المعقد بإمكانية النصرــ بتجنب اللجوء لهكذا أسلحة.

هذه أيضًا وجهة تشابه أخرى مع نظام صدام حسين، المنفلت أمام دماء كل عربي أو مسلم، الحذر جدًا حد الجبن حين يتعلق الأمر بدماء أميركية أو غربية، فرغم امتلاك العراق لمخزونات كبيرة من الأسلحة الكيماوية والجرثومية، وامتلاكه أيضًا لوسائل إيصالها إلى حيث القوات والقواعد الأميركية في المنطقة، أو حيث حلفاء واشنطن في الخليج أو الكيان، لم يجرؤ على الأمر باستخدامها مطلقًا، خوفًا من رد فعل أميركي هائل، يتجاوز قدرته على الاستمرار والبقاء، رغم أن نظام صدام سبق له استخدام الأسلحة الكيماوية بكثافة في الحرب الجنونية ضد إيران (1980-1988)، بل واستخدامها ضد شعبه، في قصف المدن والقرى الكردية طوال فترة الثمانينيات، وفي قمع الانتفاضة الشعبانية، عشية هزيمته في حرب الخليج الثانية.

الغرب الذي تعامل بكل جدية مع تهديدات صدام القائمة أو احتمالات إقدام هتلر على استخدام قنابل قذرة وأسلحة غير تقليدية، يبدو الآن في المعسكر الآخر، الراغب بشدة في دعم استخدام هذه الأسلحة في الحروب، طالما كان خصمها هنا هو روسيا، التي سيتعرض شعبها لويلاتها ومصائبها وإشعاعاتها القاتلة.

الحرب الروسية الأوكرانية، وإن كانت تكفي للتدليل على شيء واحد، وفقط، فإن هذا الشيء بالتأكيد سيكون أن الغرب يتواجد حيث تواجدت مصالحه، وحيث كانت الفائدة، وأن المبادئ والأخلاق والقانون الدولي، كلها أكاذيب مجردة، يجري الطنين بها ليل نهار، وطوال الوقت، لصرف الانتباه عن حجم وعمق الجرائم التي ارتكبها هذا الغرب ــ الأخلاقي جدًا جدًا ــ تجاه كل شعوب الأرض، كل بدوره، وكل حين تحين ساعته.

الناتو

إقرأ المزيد في: آراء وتحليلات