آراء وتحليلات
انتصارات وخيبات.. ما بعد كاريش
أحمد فؤاد
قديمًا عرّف منظرا الإستراتيجية الغربيان، الإنجليزي "ليدل هارت" والألماني "كارل فون كلاوزفيتز"، الحرب بأنها مرحلة من مراحل الصراع السياسي بين الدول، ومرحلة من مراحل تصادم الإرادات على الساحة العالمية، وحوار صاخب أدواته النار والبارود والدم، فوق طاولة هي ميدان القتال، وإذا توقفت الغارات والقصف في لحظة، فإن الحرب تحمل أطرافها إلى ميادين أخرى، أوسع وأرحب وأقل ضجيجًا.
ويتفق كل مفكر استراتيجي على أن الحرب بما أنها صراع إرادة، فإن معنى وركن النصر فيها بسيط بقدر ما هو مباشر. الطرف الذي يتمكن ويستطيع فرض إرادته وتحقيق هدفه هو الطرف المنتصر، مهما بدا من عظم التضحيات أو أهوال التكاليف، وهي ضرائب تدفعها الأمم القادرة لتحصل على حقوقها ومكانتها وما تريده، بالقوة مباشرة في حديث النار، أو تحت ظلالها بدبلوماسية الردع وبحث الطرف الآخر عن سياسة السلامة، أو الاستسلام بشكل أدق وأفصح.
هذه الحقيقة البسيطة والواضحة، جعلت ساسة "تل أبيب"، مثلًا، لا يقبلون أن تمر من تحت أيديهم فرصة قيام الرئيس المصري جمال عبد الناصر بسحب قوات الطوارئ الدولية من سيناء، وحشد الجيش المصري فيها، كتهديد رأوه يكسر هيبة الكيان الصهيوني وجيشه. وعند نقطة معينة من تصاعد الأحداث الدرامية، والتي بدأت يوم 22 أيار/ مايو 1967 بإغلاق مضيق العقبة في وجه الملاحة الصهيونية، قرر الصهاينة أن الرد على الخطوة المصرية يجب أن يكون بفعل مقابل، قادر وحاسم، وكانت ضربتهم الكبرى في الإقليم يوم 5 حزيران/ يونيو من العام ذاته، والتي بعثرت 3 جيوش عربية على الرمال وفي المرتفعات والوديان، وبالقدر الذي كانت فيه الضربة هائلة، فقد أضافت لسمعة القوات الصهيونية أنها قوة لا تقهر، وبالقدر ذاته كسرت الإرادة العربية، وشرخت كرامتها إلى أعمق مدى ممكن، وحجبت الثقة بالتالي عن جيوشها وسلاحها، وحتى عن قدرتها على القيادة والحكم.
عند لحظة العاصفة التي هبت على الشرق الأوسط، وأعادت رسم خرائطها، كان التقدم لطرف والتراجع للآخر على الرقعة الجغرافية التي احتضنت صراع الإرادة في مرحلة الاحتكام للسلاح، ترسم مجموعات ضخمة من الإشارات والدلائل واللافتات، تنقل الرسم وهو بطبيعته ذو بعد واحد على الورق إلى ما يشبه الفيلم السينمائي ـ المروع في حالتنا ـ وتمسك الصورة النابضة بلحظة من لحظات الحياة، اتحد فيها الإنسان بكل إمكانياته، والزمان بسيره الصارم للأمام، والأرض بثباتها ورسوخها.
ما حدث في فيلمنا المأساوي كان انتصارًا تاريخيًا كاملًا للكيان الصهيوني، ولعله الأفضل للمشككين أو قارئي التاريخ بأثر عكسي، أن يعودوا إلى ما سجله أحد عباقرة مصر، غير المحسوبين على أي نظام ولا كان من المنتظرين لجوائز دولية أو تكريم يفوق إنجازاته في كتبه ودراساته، العبقري الراحل جمال حمدان، حين لخص اللحظة المصرية/ العربية كلها، بعد 4 حروب مع العدو الصهيوني 1948، 1956، 1967، 1973، بمقولته النافذة إلى أعماق الحقيقية: "بقيام الكيان في 1948 فقدت مصر ربع دورها التاريخي، ثم فقدت نصف وزنها بهزيمة 1967، ثم فقدت بقية وزنها جميعا في كامب ديفيد.. ولا عزاء للخونة".
أما على المستوى الصهيوني، فقد مثلت حرب 67 قمة التطبيق العملي لإستراتيجيات العمل للكيان، فمن البداية، وحين حمي وطيس التوتر في الشرق الأوسط، كان الطرف الصهيوني هو الوحيد الذي تحرك على الأرض، عبر حشوده ضد سوريا أولًا، والتي أكدها عبد الناصر فيما بعد خلال خطاب التنحي، بعبارات لا تقبل الشك أو التأويل: "كنا ندرك أن هناك قصدًا مبيتًا ضد سوريا، وكانت مصادر أخواننا السوريين قاطعة في ذلك، كما كانت معلوماتنا الوثيقة تؤكده، وتطوع الاتحاد السوفياتي بإبلاغ الوفد البرلماني المصري الذي كان يزور موسكو في منتصف مايو بأن هناك تخطيطًا ضد سوريا".
الدول العربية التي جمعت جيوشها ونفخت في أبواق القتال، وعبر مانشيتات الصحف التي كانت تبشر بدخول "تل أبيب" ـ حتى بعد أن اتضحت الفاجعة ـ لم تتخذ خطوات عملية على الأرض توازي تحرك عسكري ضد دولة شقيقة، وكان كل موقف عربي يظهر متحديًا يظهر في مقابله، وعلى الفور تحرك صهيوني جديد على الأرض، يهيئ ويجهز مسرح عملياته للحظة الانقضاض الهائلة والحاسمة.
كان الكيان يمسك عنصر أو زمام المبادأة في يده طوال الوقت، وبمرور الساعات الطويلة التي استغرقها الإعداد للضربة الافتتاحية في معركة الشرق الأوسط الهائلة، وكانت كل الأطراف العربية بالمقابل مستعدة حتى اللحظة الأخيرة للهروب من المعركة، ولهذا كان التردد والعجز والخطط الناقصة هي لافتات العرب في هذه الحرب، ومع التقدم الصهيوني السريع، انهارت الأعصاب وطاشت التصرفات، وترك الجنود وحدهم في الصحراء الشاسعة يواجهون ـ من دون قيادة، عدوًا يملك خطة لكل تحرك وكل قذيفة عنده وراءها هدف حقيقي يسقط، وتسقط معه الكرامة العربية.
حقق الكيان الصهيوني، وحتى قبل أن يلقي كلمته الافتتاحية في الحرب، تجزئة الجبهة المقابلة، فسوريا لن تتحرك لو ضربت مصر، والأردن يقول لكنه لن يتدخل فعلًا في الحرب، وبعد فترة من الحشد التعبوي الهائل توقفت الجيوش العربية برهة قليلة، لتأتي الضربة الصهيونية الصاعقة على رؤوسها، فتدمر كل مطارات وقواعد جمهورية مصر العربية في ثلاث موجات هجومية مركزة، واستطاع طيارو الجيش الصهيوني استبعاد الطيران المصري وقاذفاته بعيدة المدى من المعركة من اللحظة الأولى، والأكثر إثارة للغضب والاشمئزاز، هو أن مطار العريش وحده ـ أقرب المطارات للأراضي الفلسطينية ـ قد أخرجه الصهاينة من أهداف الضربة لإعادة استخدامه فور دخول قواتهم العريش!
كان الكيان ـ ولا يزال ـ يحرص حين تحين ساعة المواجهة على أن يذهب هو أولًا إليها، بمعنى أنه يرفض أن ينتزع منه طرف عربي التوقيت، تحت أي ظرف ولأي سبب، ثم إن الحرب التي يختار توقيتها الكيان ستجري بعيدة عن مدنه ومراكزه الاستيطانية الكبرى، ليمنع نزيف الخسائر الفادح من التسلل للمجتمع الصهيوني، ويكسر إرادة القتال لديه، وقبل أي شيء، يهز الثقة في قدرة الجيش الذي لا يقهر على حسم معاركه بعيدًا عن أرض فلسطين المحتلة.
والكيان كذلك يعتمد دائمًا وأبدًا على أرقى ما في الترسانة الأميركية من تسلح وإمكانات عسكرية، لا يحلم أي طرف عربي بمضاهاتها أو الوقوف أمامها، ولديه من الدعم الخفي ما يوفر صور الأقمار الاصطناعية الأميركية ومهمات التجسس في الجو وعلى الأرض، ما يجعل كل عدو كتابًا مفتوحًا سهل القراءة، ومتوقعا بشكل كامل أمامه، أو ببساطة عاريا، لا يملك ما يمكن أن يطلق عليه سرًا يستحق.
ولسنوات طويلة نجحت الإستراتيجية الصهيونية في هزيمة الجيوش العربية المهزوزة والمليئة بالثقوب الواسعة، وراية منتصرة ترتفع بعد كل مواجهة عسكرية، ومدن تضج بالحياة، فيما تئن مدننا وقرانا المقصوفة بموتاها وتلملم دماءها وجرحاها، ونجح أكثر في تمريرها إلى الوجدان الجمعي العربي، وبينما يكرس هو عقيدة التفوق، نحصد نحن أثقال عقدة النقص ونجني توابعها مرًا ومرارة.
كل هذا ينتمي الآن فقط إلى زمن مضى واندثر، وحزب الله، وسيدنا سيد الوعد الصادق قد كتب تاريخًا جديدًا ووضع من قواعد العمل ما يضع الحزب في موضع جديد تمامًا بالنسبة للصراع العربي الصهيوني، ومنه نافذًا إلى الصراع العالمي الذي يشتعل نارًا ودمًا في شرق العالم وغربه، إذ إنه بعد أن كسر نظرية التفوق الصهيوني، وضع لنا نظرية جديدة للأمن العربي، بمعناه الشامل.
وإذا صحت الأوراق المتداولة حول ملف ترسيم الحدود البحرية الذي قدمه المبعوث الأميركي، فإن كل ما طلبته المقاومة من تلبية للحقوق التي حددتها الدولة للبنانية وتأمينًا لمصادر الثروات قد حصلت عليه، دون شك أو تحليل، الخط 23، وحقل قانا المقابل للسواحل اللبنانية، ثم دخول شركة "توتال" الفرنسية لبدء التنقيب في الحقل البحري اللبناني، للإسراع في خلق موارد طاقة بديلة للسوق العالمية.
أليست هذه كل طلبات لبنان، شعبًا ومقاومة، والتي تحققت اليوم، وتحت تهديد إقدام حزب الله على الحرب دفاعًا عن مصلحة لبنانية صرف؟
لم يكن حديث السيد حسن نصر الله يوم السبت الماضي، عن معادلات جديدة تنشأ بعد كاريش وفي خضمها، بل في ضرورة إبقاء العيون مفتوحة، لكي لا يفلت العدو من ثغرة، ينتظرها، وقد يمنحها له الطابور الخامس، الذي يستكبر حاليًا على المقاومة أن تهدد الكيان، ويرضخ الكيان، ويكون ما تحقق سببًا في كسر عقود طويلة من التخطيط الداخلي/ الخارجي لإخضاع البلد كله رهينة للأميركي والصهيوني.
وللتذكير فقط، ولا مجال بالطبع للشماتة في واقع مؤسف، فإن ديون لبنان الخارجية قد شهدت قفزتها الأضخم والأكبر، في عهد رئيس الوزراء السابق سعد الحريري، وطبقًا لبيانات الدول الدائنة المقدمة للبنك الدولي ارتفعت الديون الخارجية للبنان من 47.8 مليار دولار عام 2010 إلى 79.7 مليار دولار عام 2018، وهو مخطط مرسوم ومنفذ بعناية لخلق الأزمة تلو الأزمة للبلد الطيب وأهله.
إقرأ المزيد في: آراء وتحليلات
21/11/2024
خطاب الأمين: قوةٌ وتمكين ونصرٌ وتطمين
19/11/2024