آراء وتحليلات
الانتخابات الرئاسية: بين الثلثين والأكثرية
هاني ابراهيم
اعتاد اللبناني وعند كل استحقاق دستوري على كثرة الآراء والمناقشات والتحليلات، خاصة ونحن أمام باب للاجتهاد القانوني مفتوح على مصراعيه، فما بالك والاستحقاق الداهم هذا هو انتخاب رئيس للجمهورية، حيث يتمحور النقاش والجدل حول تفسير بعض المواد في الدستور اللبناني لجهة النصاب المطلوب في اجتماع مجلس النواب لانتخاب رئيس للجمهورية لا سيما المادّة /49/ وما إذا كانت هذا المادة تتحرك وتحدد نصاباً مختلفاً عن النصاب العادي المحدد في المادّة /34/ لجهة صحة وقانونية اجتماع المجلس.
هنا نقف أمام اشكالية دستورية في مواجهة قاعدة عامة وثابتة تقول التالي: عند غموض النص يفسره القاضي بالمعنى الذي يحدث معه أثرًا يكون متوافقًا مع الغرض منه أولًا، ومؤمّنًا التناسق بينه وبين النصوص الأخرى ثانيًا.
وتؤكد لنا هذه القاعدة المبدأ أو الفكرة التي تنادي بأنه لا يمكن تفسير الدستور لجهة النصاب المطلوب في اجتماع مجلس النواب لانتخاب رئيس الجمهورية على أنه يقتصر على تفسير ما ورد في المادّة /49/ بمعزل عن بقية المواد الواردة في الدستور والمتعلقة بذات الموضوع، لا سيما المادة / 34/ منه. ولعل هذا الأمر من الأهمية بمكان، خاصة أنه يسهل فهم النص من جهة ولا يعقد عملية الانتخاب من جهة أخرى، ويجعلها عرضة للنقد من هنا والاجتهاد والتفسير المصلحي من هناك.
وفي ظل هذا الاحتدام الحاصل حول مسألة النصاب المطلوب توفره في اجتماع المجلس لانتخاب رئيس للجمهورية، ورغم أن النص الدستوري كان واضحًا وصريحًا لجهة التمييز بين النصاب المفروض لصحة اجتماعات مجلس النواب وبين الأكثرية المطلوبة لاتخاذ القرارات، يظهر لنا أنه ما زال هناك عن قصد أم سهو خلط بين النصاب المفروض توفره لصحة اجتماع المجلس، وبين الأكثرية المطلوبة من الأصوات لاعتبار أي مرشح للرئاسة فائزًا بهذا الموقع.
لكن هل من أهمية لهذا التمييز بين المسألتين؟ وما الفائدة في معرفة ذلك؟ الجواب السريع نعم هناك أهمية، وهذا التفريق يفيد في تعيين مسألة النصاب المطلوب في جلسة انتخاب الرئيس، خاصة أن هناك مواد عديدة في الدستور اللبناني كانت واضحة وصريحة لجهة تعيين نسبة اعتبار الجلسة قانونية مع تحديد نسبة الاقتراع أيضًا، ومنها على سبيل المثال المادة /79/ من الدستور والتي نصت على التالي: "عندما يطرح على المجلس مشروع يتعلق بتعديل الدستور لا يمكنه أن يبحث فيه أو أن يصوت عليه ما لم تلتئم أكثرية مؤلفة من ثلثي الأعضاء الذين يؤلفون المجلس قانوناً ويجب أن يكون التصويت بالغالبية نفسها".
ولكن السؤال: لماذا لم نر هذا الوضوح في المادة /49/ وفي غيرها مثل المادتين /77/ /70/ و غيرهما؟
نصت المادّة /34/ على التالي: "لا يكون اجتماع المجلس قانونياً ما لم تحضره الأكثرية من الأعضاء الذين يؤلفونه وتتخذ القرارات بغالبية الأصوات".
وهنا، اذا ما أردنا تحويل هذه المادة الدستورية إلى أرقام نقول التالي:
إن عدد النواب في المجلس النيابي الحالي هو 128 عضوًا، ما يعني أن النصاب هو /65/ نائبًا، وهذه القاعدة منصوص عليها في الشق الأول من المادّة /34/ أعلاه. كما أن المادّة /34/ نفسها فرضت غالبية معينة من الأصوات لاتخاذ القرارات، أي غالبية معينة من الأصوات التي اقترعت، أي أنه إذا اكتمل النصاب المنصوص عنه في الشق الأول من المادّة /34/ بحضور /65/ نائبًا وطرح على المجلس مثلًا مشروع ما على التصويت، وتم التصويت من جميع الحاضرين فإنه يكفي لاعتبار المشروع مُقرًّا أن يصوت معه /33/ نائبًا، وبالتالي اعتباره دستوريًا نال النسبة المطلوبة بحسب الشق الثاني من المادّة /34/ من الدستور: "وتتخذ القرارات بغالبية الأصوات".
ولكن ماذا عن المادة 49 من الدستور اللبناني والتي هي محور مقالتنا هذه والمتعلقة بانتخاب رئيس الجمهورية؟
نصت المادة المذكورة على التالي: "ينتخب رئيس الجمهورية بالاقتراع السري بغالبية الثلثين من مجلس النواب في الدورة الأولى، ويكتفي بالغالبية المطلقة في دورات الاقتراع التي تلي".
من يقرأ المادة أعلاه يلحظ للوهلة الأولى أنها واضحة صريحة قابلة للتطبيق دون اجتهاد أو نقد، لكنها في الواقع أتت ناقصة وفسحت المجال أمام رجال القانون للاجتهاد واعطاء الرأي والرأي المقابل.
كلنا بات على يقين أن جلسة الانتخاب تحتاج في الدورة الأولى إلى الثلثين للنصاب والانتخاب، ولكن ماذا عن الدورة الثانية؟
في هذا السياق لا بد من القول إن الدستور تضمن قواعد صريحة بشأن النصاب المطلوب في اجتماعات مجلس النواب، مميزًا بشكل واضح لا لبس فيه بين النصاب المطلوب لصحة عقد الاجتماعات وبين الأكثرية المطلوبة في التصويت.
وقد جاءت المادة /49/ من الدستور لتقول بفرض أغلبية مختلفة للفوز عن الأغلبية المنصوص عنها في المادة /34/، ولكن المادة /49/ من الدستور لم تفرض نصابًا مختلفًا عن النصاب المنصوص عنه في المادة /34/ من الدستور.
واذا أردنا أن نكون أكثر دقة لجهة المادة /49/ باعتبار أن الأكثرية المطلوبة تختلف بين دورة الاقتراع الأولى حيث إن الغالبية المطلوبة هي الثلثان وبين دورات الاقتراع التي تلي حيث إن الغالبية المطلوبة هي النصف، فمعنى ذلك أن اجتماع المجلس يكون قانونيًا بمجرد حضور أكثرية أعضاء مجلس النواب، أي النصف زائدا واحد تطبيقًا للمادة /34/ من الدستور، وبمجرد توافر هذه الأكثرية يمكن للمجلس أن يباشر عملية الاقتراع في دورة أولى، فاذا لم ينل أحد المرشحين غالبية الثلثين، عندها يمكن الانتقال إلى دورات اقتراع لاحقة ومتتالية حتى يحصل أحد المرشحين على الغالبية المطلوبة للفوز وهي الأكثرية المطلقة.
أما اذا اعتبرنا أن المادة /49/ فرضت ضمنًا نصابًا مختلفًا عن ذلك المنصوص عنه في المادة /34/، بحيث إن اجتماع المجلس لا يكون قانونيًا لمباشرة الانتخاب إلا اذا توفر الثلثان، فعندها لا يمكن مباشرة عملية الاقتراع حتى نبدأ بِعدّ أعضاء المجلس الحاضرين أو احتساب عدد دورات الاقتراع.
إن الرأي الذي يقول بنصاب الثلثين لانعقاد اجتماع المجلس لانتخاب الرئيس يتجاوز قواعد تفسير النصوص القانونية وهو في الواقع يشكل إضافة إلى النص الدستوري وليس تفسيرًا له على الاطلاق وهو ينطلق من خلفية مصلحية وليس دستورية. بمعنى أوضح، هذا الموقف كأنه يضيف فقرة إلى المادة /49/ مماثلة للفقرة الأولى من المادة /34/ التي تنص على أن "اجتماع المجلس لا يكون قانونيًا ما لم تحضره الأكثرية من الأعضاء.."، وشبيه أيضًا بالشق الأول من المادة /79/ التي تنص على أنه عندما يطرح على المجلس مشروع يتعلق بتعديل الدستور لا يمكنه أن يبحث فيه أو يصوت عليه ما لم تلتئم أكثرية مؤلفة من ثلثي الأعضاء. فالفقرتان المشار إليهما والواردتان في المادتين أعلاه وتتعلقان بالنصاب لم يذكر ما يشبههما في المادة /49/، ومن ثم فإن محاولة تطبيق حكمهما على المادة /49/ واعتبار ذلك موجودًا ضمنًا وحكمًا فان ذلك محض تضليل وليس تفسيرًا بل اضافة شيء غير موجود وذلك يتناقض مع المعايير الدستورية والقانونية ويشكل إضافة على نص المادة المذكورة دون مسوّغ دستوري.
فهل يمكن لمن يحلو له المزايدة بحجة التفسير أن يضيف فقرة سواء على المادة /49/ أو غيرها حتى لفرض أمر واقع من خلال نصاب يختلف عن النصاب المعمول به في المادة /34/ من الدستور ليس لشيء بل فقط لتمرير أهدافه السياسية بضرب عرض الحائط بكل ما هو دستوري قانوني؟
إقرأ المزيد في: آراء وتحليلات
21/11/2024
خطاب الأمين: قوةٌ وتمكين ونصرٌ وتطمين
19/11/2024