آراء وتحليلات
"الشراء العام": بدء السريان وتمرّد المركزي
هاني ابراهيم
انتهى عهد إدارة المناقصات بكل تفاصيله وثغراته التشريعية التي كانت سببًا في مكان ما لغياب الشفافية وانعدام الرقابة، إلا بالحد الأدنى الذي تجيزه التشريعات الخاصة بالشراء العام في حينه، فكانت هذه النهاية مدخلًا لبداية عهد جديد متعلق بقانون عصري شفاف يتصف بمعيار النزاهة، راعى في طياته وبنوده أعلى معايير الجودة والشفافية فانبثقت عنه هيئة سميت بـ"هيئة الشراء العام"، والتي يرأسها حاليًا مدير عام ادارة المناقصات سابقا الدكتور جان العلية.
إلا أن قانونًا عصريًا يهدف إلى تطبيق الشفافية ومكافحة الهدر والفساد في المال العام في بلد اعتاد على الصفقات والتسويات والعقود بالتراضي، كان من البديهي أن يواجه بعض المطبات التي ستحاول من خلالها بعض المؤسسات ـ التي لم تكن تنضوي في السابق تحت لواء هكذا نوع من القوانين ـ إلى التملص من هذا القانون واعتباره غير نافذ عليها وأنها غير معنيّة به، فيما ذهب البعض الآخر إلى اعتباره يناقض قوانين أخرى تحكم آليّة عمله كونه يتعارض مع استقلاليته وهيكلية تنظيمه، وهنا "الطامّة الكبرى".
19 تموز/ يوليو من عام 2022 كان موعدًا لاعتبار القانون رقم 244/2021 ساري المفعول مع قيام "هيئة الشراء العام" بعملها وفقًا للقانون المذكور. ومن المتوقع أن يكون المصرف المركزي في طليعة المبادرين لمحاولة التفلت من هذا القانون لما له من آلية تتمتع بالقدرة المتكاملة الى حد ما للتحكم بعمليات الشراء داخل اداراته وخاصة أنه المكان الذي أوصل البلاد إلى ما هي عليه الآن ابتداء من عملية تثبيت سعر الصرف دون الاعتماد على قوانين السوق، مرورًا بهندسات مالية تنفيعية مصلحية، وليس آخِرًا تعاميم تتحكم برقاب الناس وأموالهم، وكلّها توجيهات وقرارات ما انزل الله بها من سلطان.
أولى مبادرات المركزي في اطار التهرّب كانت من خلال كتاب مرسل من المصرف المركزي بتاريخ 5 تموز/يوليو من عام 2022 تحت الرقم 1994/1 يطلب المصرف المركزي بموجبه من رئيس الحكومة أن يتم عرض كتابه على مجلس الوزراء بمحاولة لتعديل بعض مواد القانون رقم 244/2021 المتعلق بالشراء العام، إلا أن أهم ما يلفت الانتباه من مجمل ما طلبه في كتابه هذا هو الغاء الفقرة 6 من المادة 3 من القانون لتعارضه مع "استقلالية المصرف وهيكليته" وذلك بحسب زعمه واجتهاداته طبعًا.
أحالت الأمانة العامة لمجلس الوزراء الكتاب المذكور أعلاه إلى هيئة الشراء العام بشخص رئيسها وذلك بتاريخ 3/8/2022 تحت الرقم 1440/م .ص. للاطلاع عليه والافادة وفق المجرى الطبيعي للأمور، فكان رد هيئة الشراء العام بتاريخ 11/8/2022 تحت الرقم 7/2022 سريعًا وصريحًا وواضحًا بكل المعاني والاتجاهات القانونية منها والواقعية.
إلا أن السؤال الذي يطرح نفسه هنا هو ما سر الفقرة 6 من المادة الثالثة من القانون رقم 244/2021 المعروف بقانون الشراء العام؟ ولماذا أقام الحاكم الدنيا ولم يقعدها بهدف الغائها؟ واذا كان المصرف المركزي يمارس فعلًا الشفافية والنزاهة في عمله، فما الداعي إلى كل هذه الخضة في هذا الاطار؟
أسئلة مشروعة يطرحها كل متابع، أما الجواب عنها فسنأخذه من خلال معرفة خفايا هذه المادة. نصّت الفقرة السادسة من المادة 3 من القانون المذكور على التالي: "تطبق أحكام هذا القانون على عمليات الشراء التي يجريها مصرف لبنان باستثناء طباعة واصدار النقد وتحويلاته".
يُقال اذا عرف السبب بطل العجب، فكيف لا ينتفض الحاكم عندما يصبح مكبل اليدين في عمليات الشراء التي باتت تخضع لرقابة هيئة الشراء العام؟ بمعنى آخر إن كل ما يتعلق بالشراء داخل المصرف المركزي من أصغر شراء إلى أكبر عملية شراء يجب أن يمر عبر هيئة الشراء العام، ما يعني أن هناك من سيراقب ما يحصل داخل المصرف وهو الأمر الذي لم يعتد عليه يومًا الحاكم.
وفي النقاش التفصيلي لهذا البند، فإن رقابة هيئة الشراء العام لا تؤثر لا من قريب ولا من بعيد على استقلالية المصرف أو هيكليته على الاطلاق، ولا تتعارض هذه الرقابة من قبل هيئة الشراء العام مع وظيفة المصرف النقدية والمصرفية، وهذا الأمر واضح وصريح في نفس البند المطلوب الغاؤه ما يعني أن الهيئة غير معنية بما هو اصدار للنقد وتحويلاته.
وعلى ما يبدو وفي السياق نفسه، غاب عن بال الحاكم ما نصت عليه المادة 114 من القانون نفسه خاصة أن الحاكم بطلبه هذا ـ الغاء البند المذكور ـ قد استشهد بقانون المحاسبة العمومية، وتتعارض هذه المادة مع استقلالية المصرف وهيكليته، فماذا جاء في المادة 114 من قانون الشراء العام هذه لا سيما الفقرة 5 منها؟ "تلغى كافة المواد والنصوص المخالفة لأحكام هذا القانون أي قانون الشراء العام أو لا تتفق معه".
وعليه، لم يعد يستطيع حاكم المصرف المركزي أن يحتج بقانون المحاسبة العمومية أو أي قانون آخر ذات صلة صادر ما قبل هذا القانون، أي القانون رقم 244/2021 تاريخ 19 تموز عملًا بالقاعدة العامة في القانون الناسخ والمنسوخ ولم يعد هناك من مهرب سوى الخضوع أو أقله الاعتياد على أن هناك من سيراقب عمليات الشراء داخل المصرف لما فيه مصلحة الوطن والمواطن والمال العام.
يبقى قانون الشراء العام في لبنان خطوة مهمة وجريئة ونقطة ضوء في مسيرة مكافحة الهدر والفساد وسيادة الشفافية والنزاهة والمنافسة تحت اطار عام ألا وهو شمولية تطبيق كل ذلك وفق معايير عالمية وجودة متقدمة. فقد باتت في لبنان هيئة عمومية للشراء العام متخصصة ومحايدة والأهم مستقلة عن الجميع تقوم بالتنظيم والمراقبة لا تخضع لا لسلطة تسلسلية ولا لسلطة وصاية ادارية، وذلك بحسب نص المادة 74 من القانون نفسه.
إقرأ المزيد في: آراء وتحليلات
21/11/2024
خطاب الأمين: قوةٌ وتمكين ونصرٌ وتطمين
19/11/2024