آراء وتحليلات
ذهب روسيا.. عصيّ على عقوبات الغرب وأوروبا الاطلسية
د. علي دربج باحث ومحاضر جامعي
لا يترك الغرب الأطلسي وسيلة او أسلوبًا او خطة او نافذة او طريقة، الا ويلجأ إليها ويعمل بها، لتجفيف مصادر السيولة النقدية لروسيا، لدفع اقتصادها نحو التدهور والهاوية.
اما آخر صيحات العقوبات التي تنوي دول الاطلسي استهداف الكرملين من خلالها، فهي الاطباق على قطاع الذهب الروسي الذي يمثل أكبر صادرات البلاد غير المرتبطة بالطاقة.
ولهذه الغاية، اكدت مصادر غربية في 14 تموز/ يوليو الجاري، أن حزمة العقوبات السابعة للاتحاد الأوروبي ستفرض حظرا على واردات الذهب الروسية، تطبيقا لقرار دول مجموعة السبع في نهاية حزيران/ يونيو الماضي، حسبما أعلن المفوض الأوروبي ماروس سيفكوفيتش خلال اجتماع لوزراء الخارجية الأوروبيين في براغ، وبذلك سينضم الاتحاد الأوروبي إلى الولايات المتحدة والمملكة المتحدة وكندا واليابان، التي حظرت بالفعل واردات الذهب الروسي مؤخرا.
ما هي أهمية الذهب الروسي؟ وكم بلغت صادراته؟
يلعب الذهب دورا حاسما واساسيا في الاقتصاد الروسي؛ فهو عدا عن انه يشكل أكبر صادرات روسيا التي تدرّ عليها عملات صعبة، الى جانب الطاقة، فهو يساهم بشكل رئيسي ايضا، بتغذية ميزانية الحكومة الروسية، وبالتالي يعطي دفعا كبيرا للاقتصاد الروسي الذي يعمل الغرب على ضربه.
وبحسب دائرة الجمارك الفيدرالية الروسية، صدّر الاتحاد الروسي في العام 2021 وحده أكثر من 302 طن من الذهب (تتراوح قيمتها بين 17.4 و 20 مليار دولار). المفارقة أن المملكة المتحدة - التي كانت أول من فرض عقوبات على الذهب الروسي في آذار/ مارس 2022 - اشترت من جانبها 266 طنًا بقيمة 15.4 مليار دولار.
ما ينبغي معرفته في هذه النقطة، هو ان موسكو كانت قد امتنعت من تلقاء نفسها بيع الذهب لبريطانيا، عندما رفض سوق السبائك في لندن في آذار/ مارس 2022 ، منح منتجي الذهب الروس مواصفات التسليم الجيد. حينها توقف تصدير روسيا للمعدن النفيس بحكم الأمر الواقع، لكن الأكثر اهمية، هو انه منذ ذلك الحين، وتحديدا بين نيسان/ أبريل وايار/ مايو الماضيين ، تمكنت روسيا من بيع ما يزيد قليلا عن 100 طن (بمعدل إنتاج يومي يبلغ حوالي طن يوميا).
ليس هذا فحسب، إذ انه بعد رفض المملكة المتحدة شراء الذهب الروسي، تمكنت موسكو من إيجاد أسواق بديلة ومشترين جدد، بسهولة كبيرة. فاستنادًا إلى إحصائيات عام 2021 - استوردت كازاخستان (8 أطنان من الذهب الروسي في عام 2021)، وسويسرا (7.25 طنًا) وألمانيا (5.5 طنًا).
هل تنعكس العقوبات الاوروبية سلبا على قطاع الذهب الروسي؟
يزعم الغرب أن اتحاد منتجي الذهب في روسيا (UGPR) يعش حالة من الذعر بسبب العقوبات، ويستشهد على ذلك بكلام للاتحاد صدر مؤخرا، اوضح فيه أنه إذا لم يتغير الوضع في صناعة الذهب الروسية قريبًا ، "فقد تتعرض لأضرار لا يمكن إصلاحها". وذكر الاتحاد في رسالته أنه بدون دعم كبير من الحكومة، قد يتم تحديد مصير ما لا يقل عن 400 ورشة فنية صغيرة ومتوسطة الحجم (توظف ما يقرب من 40000 عامل).
لكن مهلا، في الحقيقة ان الصعوبات التي تحدث عنها اتحاد منتجي الذهب في روسيا، ترتبط بسياسات الحكومة الداخلية، اكثر منها العقوبات، وهو ما أشار إليه نائب رئيس الاتحاد الروسي للعلاقات العامة، سيرغي كوشوبا، الذي حملّ
المسؤولية لسياسات البنك المركزي للاتحاد الروسي. وذكر أن الظروف الحالية التي وضعها البنك المركزي (استعداده لشراء الذهب بخصم كبير) تجعل من غير المربح - وأحيانا ضارا - أن يواصل منتجو الذهب عملياتهم.
ومع احتمال تحول المزيد من العقوبات الغربية التي تركز على الذهب إلى حقيقة واقعة في المستقبل القريب، تعمل موسكو على اتخاذ مجموعة من التدابير والخطوات الاحترازية، للتخفيف من التأثير المحتمل لهذه العقوبات، وجعلها فاشلة وعديمة الفاعلية.
وضعت روسيا ثلاث استراتيجيات مركزية للتغلب على عقوبات أوروبا الاطلسية، يمكن ايجازها بالاتي;
اولا: تصنيف جميع المعلومات المتاحة المتعلقة بصناعة الذهب الروسية في خانة السرّية، لحرمان الغرب من تحصيل المعلومات التي يمكن استخدامها لتعزيز العقوبات وتنويعها. ولهذه الغاية تمت الموافقة بالفعل على مشروع قانون مماثل في مجلس الدوما الروسي، على ان تستتبع الإجراءات الإضافية في الفترة المقبلة.
ثانياً: اتجاه موسكو للاعتماد على " مبدأ التحايل"، والذي يعد خيارا قابلا للتطبيق نظرا لما يسمى باستراتيجية "الاستيراد الموازي" التي تنتهجها روسيا. يستشهد الخبراء الروس بالفعل بنجاح جنوب إفريقيا - عندما تعرضت لعقوبات دولية في 1970 وسط الفصل العنصري - بالتهرب من العقوبات المتعلقة بالذهب في اعقاب حظر صادرات سبائك الذهب، وذلك من خلال البدء في صك عملاتها الخاصة، مما شل فعالية العقوبات وافراغها من مضمونها.
ثالثاً: تحويل صادرات الذهب إلى دول "صديقة" - مثل الهند والصين والإمارات العربية المتحدة ـ خصوصا تلك التي لم تفرض عقوبات على روسيا، او قيام موسكو بتحويل عملية صك النقود إلى أحد شركاء روسيا ، بما في ذلك كازاخستان. وفي هذا الاطار، يعرب بعض الخبراء والمسؤولين الحكوميين الروس، عن يقينهم من أنه بينما يفرض الغرب الجماعي عقوبات على الذهب الروسي، فإن "الدول الأكثر واقعية" الأخرى لن تفوت هذه الفرصة، ويمكن أن تستفيد من الوصول إلى المعادن الثمينة في روسيا.
ما هو الوضع الحالي لسوق الذهب في روسيا؟
على الرغم من التهويل الغربي الاطلسي، بعدم جدوى الخطة التي تعتمد عليها روسيا، والتشكيك بنجاحها، يتمثل قطاع منتجي الذهب في روسيا بأربع شركات رئيسية وهي بالترتيب:
1ـ شركة "بوليوس" التي تمتلك 104 ملايين أوقية من احتياطياتها المؤكدة من الذهب في مقدمة المنتجين، وتعدّ ايضا، من أكبر شركات التعدين في روسيا وواحدة من الخمس الاوائل على مستوى العالم. ولهذا يقدر خبراء المعادن النفيسة، انه من غير المحتمل أن تتأثر بشدة بالعقوبات، لأن زبائنها الرئيسيين موجودون في روسيا، وهو ما يساعد الشركة على خفض تكاليف الإنتاج.
2ـ شركة "بوليميتال إنترناشيونال" ـ ثاني أكبر منتج للذهب الروسي ـ وهذه بدورها من المرجح ان تتغلب على معظم الأضرار، لأن نشاطها فاعل جداً مع كازاخستان، ولديها محفظة منتجات متنوعة بشكل جيد، تحتوي بالإضافة إلى الذهب على جزء كبير من الفضة.
3ـ شركة "بتروبافلوفسك" - تقل قيمتها في السوق الحالية عن حجم ديونها التراكمية - التي من المتوقع ان تواجه بعض الأوقات الصعبة التي قد تؤدي إلى الإفلاس الكامل.
4ـ جمعية المنقبين "سليجدار" - تمتلك 277 طنًا من احتياطي الذهب ـ وهذه لا يُتوقع أن تتكبد خسائر فادحة، كون شركائها الرئيسيين، يتواجدون في روسيا.
في المحصلة، وبناء على ما تقدم من أرقام ومعطيات، فإن الاوضاع الحالية لصناعة الذهب الروسية لا تبدو مأزومة، او انه يمكن شلها بسبب العقوبات، نظرا للخيارات البديلة (عن الغرب) والمتاحة امام موسكو ومن بينها ـ إضافة الى التوجه نحو اسواق الشرق ـ الاستعانة بإيران التي تملك خبرات تاريخية ومتقنة في التحايل على العقوبات الغربية والقفز فوقها والتقليل من فاعليتها، وهذا ما بدأت روسيا القيام به فعليا.
إقرأ المزيد في: آراء وتحليلات
21/11/2024
خطاب الأمين: قوةٌ وتمكين ونصرٌ وتطمين
19/11/2024