آراء وتحليلات
الصندوق السيادي المصري: ليس فقرًا لكنه إفقار
أحمد فؤاد
تجتهد أنظمة الحكم، في أي فترة بالتاريخ البشري المعروف لنا، لحشد كل القوى المجتمعية في معاركها، وإقناع غالبية المحكومين بأنها تمارس السلطة من أجلهم، وتقول ـ ولو نفاقًا ـ إنها تعمل لمصلحة السواد الأعظم من شعبها، وفي حال كان نظام الحكم يقوم بعمليات إصلاحية واسعة، فإن مدى النجاح المتحقق يكون رهنًا فقط بالموافقة الشعبية، سواء الموافقة بالصمت أو بالمشاركة في تحمل تبعات الإصلاح والبناء.
في مصر، التي تخوض عاصفة الإصلاح الاقتصادي منذ 4 أعوام كاملة، فهم رئيس الدولة، الجنرال عبد الفتاح السيسي، ما هو منطقي بالضرورة، بعد ثورة على "مبارك"، وطلب عدة مرات من إعلامه أن ينقل خارطة الإصلاحات الجارية، ويُوضح تكاليفها الضخمة، بل وإنجازاته للناس، وتكررت كلمات "قولوا للناس الحكاية" مرات ومرات، خلال عدة مؤتمرات متتالية، يعقدها في منتجع شرم الشيخ، ويحرص على دعوة شباب منتقين بعناية إليها.
لكن.. تلك الكلمة الصارخة في وسط المسيرة، تأتي تصرفات الحكومة المصرية، في كل ملفاتها وتحدياتها، لتضع ألف علامة استفهام على طريقة إدارة الدولة، ولمصلحة من تتم تلك الإدارة، وتفتح التصريحات مزيدًا من التساؤلات، التي ترقى أحيانًا لاتهامات صارخة، وباتت الكتلة الوطنية، التي يناشدها الرئيس، متآكلة، حتى ان القبضة الأمنية العنيفة لم تمنع خروج البعض يحملون لافتات تدعو النظام للرحيل، عشية حادث قطار محطة مصر المأساوي، رغم علمهم بأنه خروج بلا عودة، وسجن بغير نهاية منظورة.
حوّل النظام من ظلمات الاعتقال ومرارة الهجرة، في ظرف 5 سنوات فقط، إلى مصير لا يختلف عن استكمال الحياة اليومية الاعتيادية في مصر، المحروسة سابقًا، المخروسة حاليًا.
وبعد مرور أيام قليلة على الحادث المفجع، ودم ضحاياه لا يزال ساخنًا لم يبرد بعد، أقر رئيس الوزراء مصطفى مدبولي، النظام الأساسي لصندوق مصر السيادي، والذي سبق ووافق عليه البرلمان في تموز/ يوليو من العام الماضي، من أجل الاستثمار واستغلال عوائد الصندوق في عملية التنمية، برأسمال قدره 5 مليارات جنيه، أي نحو 275 مليون دولار فقط، وهو مبلغ صغير حد التفاهة، إذا ما علمنا أن رؤوس أموال الصناديق السيادية حول العالم تزيد على 4 تريليونات دولار، أضخمها صناديق النرويج والإمارات والسعودية والصين.
الغريب أن الموازنة المصرية، التي يعتمد عليها الصندوق في نشأته واستمراره، تعاني من عجز مزمن وفجوة تتسع عامًا بعد الآخر، رغم كل إجراءات التقشف، التي تنزل على رؤوس البسطاء وحدهم، وبلغ عجز الموازنة الحالية نحو 440 مليار جنيه بنهاية العام المالي الجاري 2018-2019، بنسبة 8.6% ارتفاعًا من 8.4% في العام المالي السابق، بسبب ارتفاع الفوائد على الديون، والتي تضرب أرقامًا قياسية جديدة كل عام، وارتفعت الديون الخارجية لمصر من 43 مليار دولار قبل 4 سنوات فقط، إلى نحو 92 مليارًا، بنهاية العام الماضي، فيما سجلت الديون الداخلية طفرة هائلة هي الأخرى، لتبلغ نحو 3.8 تريليونات جنيه.
الحقيقة المرّة هي أن الصندوق السيادي يخاصم كل ما نعرفه عن الصناديق السيادية، ونعاينه عن سياق عملها وظروف نشأتها عالميًا، فمن ناحية مصر دولة لا تمتلك فوائض أموال هائلة، مثل الصين أو الخليج، ولا هي قادرة بالفعل على استقطاب استثمارات أجنبية، وإلا لكانت الاستثمارات جاءت بعد تلبية كل ـ وأي ـ مطلب أو شرط، لكنها لا تفضل الاستثمار سوى في الأموال الساخنة، أو الديون الحكومية، التي لا تتطلب مخاطرة عالية، ولا تدخل بالأساس في أي نشاط اقتصادي واقعي وحقيقي.
سيحصل الصندوق على موارده من أصول الشعب غير المستغلة، ممثلة في بقية الكيانات الهائلة التي تركتها ثورة يوليو 1952، كأهم منجزاتها على الإطلاق، ومن أراضي البلد، التي رفعتها المضاربات العقارية إلى أسعار فلكية، لأنه قائم بالاعتماد على أملاك الدولة وليس على فوائض مالية، كما يفترض أو ينبغي.
ما تقوله الحكومة في تصريحاتها، بداية من رئيس الوزراء، إن الصندوق سيعمل بآليات جديدة، تتجنب التكلس الحكومي، وتتيح لمجلس إدارة الصندوق التصرف بأريحية، وهو عذر أقبح من ذنب، فإذا كانت الحكومة تقر بعدم قدرتها على إدارة البلد أو أمواله، وتستعين بـ"صديق"، فلماذا تستمر من الأصل؟!
والقراءة الوطنية، حسب نصوص قانون تأسيس الصندوق، تكشف أنه خارج أي مظلة رقابية، حتى ولو اسمية، سواء حكومية أو برلمانية، حيث ستنتقل الأصول العامة، بقرار جمهوري، إلى الجمعية العامة للصندوق، التي تتكون من رئيس الوزراء و4 من وزراء حكومته، و7 من الخبراء، ولم يضع القانون شروطًا واجبة في هؤلاء الخبراء، والنص على ضرورة أن يكونوا مصريين، وليسوا من الأجانب، ومصر لا يعوزها خبراء اقتصاد وطنيون، وبها قامات مشهود لها.
وبالطبع ستنتخب تلك الجمعية العمومية مجلسًا للإدارة، كما يحدث في أي عمل خاص، وهذا المجلس بدوره يضم 4 خبراء، ويسيطر على الأصول المصرية، سواء أراض أو أسهم وسندات وغيرها، والتي تؤول إلى الصندوق، وكما أسلفنا بلا رقابة على عمله، كما يجوز لمجلس الإدارة أن يتصرف في هذه الأصول بأي صورة يراها.
وبهذه الكيفية تفتقر الأوطان، وتفقد ثرواتها، وتبيع يومها وأمسها لمصلحة غد ضبابي، ويبتعد شاطئ النجاة، بالمسافة ذاتها التي تخاصم فيها الحكومة حقوق شعبها وتنتهك أصوله.
إقرأ المزيد في: آراء وتحليلات
23/11/2024
لماذا تعرقل واشنطن و"تل أبيب" تسليح العراق؟
21/11/2024