آراء وتحليلات
حينما يعترف الاميركيون بأخطائهم الكارثية
بغداد - عادل الجبوري
رغم مرور تسعة عشر عامًا على غزو الولايات المتحدة الأميركية للعراق بذريعة اسقاط نظام صدام باعتباره يشكل خطرًا على السلم والأمن الدوليين، إلا أن كل الحقائق والخفايا المتعلقة بخلفيات ودوافع وآثار وتبعات الغزو والاحتلال لم تظهر بالكامل الى العلن، وما ظهر وطفا على السطح الى الان، ربما يشكل نزرًا يسيرًا من الكمّ الكبير والهائل لتلك الخفايا. مع ذلك فإن هذا النزر اليسير بحد ذاته يمكن أن يشكل إدانة قوية للولايات المتحدة الأميركية ومن وقف معها وسار وراءها وساندها وشجعها على ارتكاب ما ارتكبته من جرائم، تحت شعار اسقاط نظام هي التي جاءت به ومكنته وأطلقت له العنان ليعيث في الأرض فسادًا ويهلك الحرث والنسل.
فإعدام المفكر الاسلامي الكبير آية الله العظمى الشهيد السيد محمد باقر الصدر وأخته العلوية بنت الهدى، في التاسع من شهر نيسان-ابريل من عام 1980، وقبلهما وبعدهما الكثيرون من مختلف فئات وشرائح الشعب العراقي، وشن الحرب على ايران بعد عدة شهور، وغزو الكويت في عام 1990، وقمع الانتفاضة الشعبية في عام 1991، وتجويع الشعب العراقي واذلاله، كل تلك الجرائم وغيرها ما كان لها أن تقع لولا ذلك الدعم والاسناد الذي تلقاه نظام صدام حسين من أطراف دولية واقليمية عديدة، في مقدمتها الولايات المتحدة الاميركية.
وكما يقول البعض، اذا كانت الولايات المتحدة قد أسقطت نظام صدام، بعدما شعرت أنه لم يعد عنصرًا مفيدًا لها، وبعد أن أدركت أن المعارضة العراقية باتت على وشك اسقاطه، فإنها في الواقع مهدت لحقبة جديدة في تاريخ العراق، حفلت بالكثير من الاجرام الأميركي الذي لم يختلف كثيرًا عن الاجرام الصدامي. ولعل الأعداد الهائلة من الضحايا والدمار الهائل الذي لحق بالبنى التحتية والمنشآت الحيوية، وظهور الارهاب التكفيري، واستفحال الفتن الطائفية، مثلت مؤشرات ودلائل على ما خلفه الغزو والاحتلال الأميركي للعراق من مآسٍ وكوارث وويلات لن تمحى آثارها إلا بعد وقت طويل.
فضلا عن ذلك، فإن الاحتلال الأميركي أسس لمعادلات سياسية قلقة في العراق، ارتكزت على معايير طائفية وقومية ومذهبية، ساهمت في ايجاد مناخات سياسية متأزمة ومتشنجة على الدوام، سادتها الصراعات الحادة على مواقع السلطة والهيمنة والنفوذ، أريد لها أن تكون بشكل أو بآخر بمثابة أرضيات لتمرير أجندات ومشاريع التفتيت والتقسيم، وفق ما طرحه الرئيس الأميركي الحالي جوزيف بايدن، قبل بضعة أعوام حينما كان يشغل منصب رئيس لجنة العلاقات الخارجية في الكونجرس، وكذلك ما تناولته ونظرت له العديد من مراكز الابحاث والدراسات الاستراتيجية الأميركية طيلة الأعوام التي أعقبت الاطاحة بنظام صدام، وحتى ما قبل ذلك الوقت.
ولعله بعد وقت غير طويل من الغزو والاحتلال الاميركي للعراق عام 2003، راحت الحقائق والخفايا تظهر وتتكشف تباعا، عبر المؤسسات والشخصيات السياسية والعسكرية والاعلامية والاكاديمية الاميركية نفسها.
ففي عام 2008، أي بعد ستة أعوام على الاحتلال، صدرت تقارير واحصاءات من مراكز ومؤسسات بحثية اميركية، أشارت الى أن تكاليف الحرب بلغت حتى الآن 700 مليار دولار أميركي الى جانب الخسائر البشرية التي بلغت أكثر من أربعة آلاف جندي أميركي.
ومثل تلك الأرقام، لا شك أنها أثارت حفيظة الكثير من الاميركيين الذين كانوا يشعرون بمزيد من القلق وهم يواجهون تبعات وآثار الأزمة الاقتصادية العالمية الحادة التي هزت الولايات المتحدة بالدرجة الاساس ودولًا أخرى كثيرة حينذاك.
الى جانب ذلك، فإن استطلاعات الرأي، أشارت عشية الانتخابات الرئاسية الأميركية في الرابع من شهر تشرين الثاني-نوفمبر من عام 2008، حينما كان التنافس بين الديمقراطي باراك اوباما والجمهوري جون ماكين على اشده، الى تراجع الاهتمام الأميركي بما يدور في العراق واعطاء الاولوية للقضايا الاقتصادية والحياتية الداخلية.
وفي استطلاع أجرته منظمة (ORB) الصحفية العالمية، التي تتخذ من واشنطن مقرا لها، قبل اعوام قلائل، تبين أن حصيلة الضحايا العراقيين منذ ربيع عام 2003 وحتى عام 2019، بلغت مليونا و33 ألف، في حين أشارت دراسة أنجزتها جامعة جونز هوبكنز الاميركية الى ان عدد ضحايا الاحتلال الأميركي للعراق تجاوز الستمائة الف شخص.
وبعد فوزه في الانتخابات الرئاسية في عام 2008، صرح الرئيس الاسبق باراك اوباما قائلا "ان واشنطن ستنتهج استراتيجية دبلوماسية اقليمية، وتساعد في اعادة توطين ملايين العراقيين الذين شردهم العنف، وستحاول مساعدة الزعماء العراقيين على حل قضاياهم السياسية المثيرة للانقسام، وستباشر واشنطن انخراطًا منضبطًا ودائمًا مع كل دول المنطقة وهذا سيشمل ايران وسوريا".
ولا شك أن تصريحات من هذا القبيل، وعلى لسان أعلى مسوؤل في الولايات المتحدة، يعني فيما يعنيه اعترافًا صريحًا ودليلًا دامغًا على الأخطاء الكارثية التي ارتكبتها واشنطن، سواء في ظل الادارات الديمقراطية أو الادارات الجمهورية.
وبصورة أكثر وضوحًا، ظهرت العضو السابقة في مجلس النواب الأميركي لين وولسي قبل بضعة أعوام لتقول "لا يمكن للرأي العام العراقي أن ينظر الى مثل هذا العدد الضخم من القوات الأميركية، إلا على أنه قوة احتلال مستمر، وأنه ما دام ينظر الى الولايات المتحدة على أنها طرف محتل، لن يستطيع العراقيون تحقيق الوحدة المطلوبة والمصالحة وبذل مزيد من جهود التحول الديمقراطي اللازمة كي يحققوا استقرارًا طويل الأمد في البلاد". ولعل هذا هو الحاصل الآن بشكل أو بآخر، لأن الولايات المتحدة التي سحبت قواتها بشكل كامل من العراق في نهاية عام 2011 وفق الاتفاقية الامنية المبرمة مع العراق في عام 2008، عادت مرة أخرى لترسل الآلاف من جنودها في صيف عام 2014 تحت غطاء محاربة تنظيم "داعش" في العراق وسوريا.
وبينما يفترض أنها انسحبت في نهاية العام الماضي من العراق، فإنها في واقع الأمر باقية عبر مئات أو آلاف الجنود المرابطين في عدد من القواعد العسكرية، وعبر أكبر سفارة لها في العالم، تضم اكثر من خمسة آلاف عنصر الى جانب مختلف المعدات والاسلحة المتطورة، وما خفي أعظم. هذا في الوقت الذي بات أغلب العراقيين -ان لم يكن جميعهم- يدركون حقيقة أنه لا استقرار ولا أمن ولا أمان وازدهار يمكن أن يتحقق لبلدهم ما دامت الولايات المتحدة جاثمة على صدورهم بعد تسعة عشر عامًا من اجتياحها وغزوها وتدميرها له.
إقرأ المزيد في: آراء وتحليلات
21/11/2024
خطاب الأمين: قوةٌ وتمكين ونصرٌ وتطمين
19/11/2024