آراء وتحليلات
هل تفتح الحرب في أوكرانيا فرصًا لتهدئة ملفات ساخنة في المنطقة؟
علي عبادي
ترحيب السعودية ببيان رئيس الحكومة اللبنانية نجيب ميقاتي كان مفاجئاً بعض الشيء للعديد من المراقبين، بالنظر الى أن شروطها المعلنة لم يُلبَّ منها الكثير، وهذا يشير الى خطة تحرك جديدة لدول الخليج تتعلق بلبنان وسوريا، وربما أبعد.
هناك ترابط زمني، ومنطقياً ارتباط سياسي (حتى يثبت العكس)، بين الانفتاح الإماراتي على سوريا، وتراجع التشدد السعودي حيال لبنان، ودعوة السعودية الى حوار يمني - يمني في الرياض.
للتذكير، استدعت السعودية في تشرين الأول الماضي (بشكل مفاجئ أيضاً) سفيرها لدى بيروت وطلبت من السفير اللبناني مغادرة الرياض وقررت وقف كل الواردات اللبنانية إليها، وحذت حذوها دول خليجية أخرى، وكانت الذريعة تصريحات سابقة لوزير الإعلام اللبناني جورج قرداحي (أطلقها في مقابلة متلفزة قبل توليه الوزارة) انتقد فيها التدخل العسكري بقيادة السعودية في اليمن.
ثم تلا ذلك إبلاغ لبنان بمجموعة شروط سعودية - خليجية من جملتها "ضرورة اعتماد سياسة النأي بالنفس وإعادة إحيائها، والالتزام بالشرعية العربية وبالقرارات الدولية الصادرة عن مجلس الأمن الدولي، لا سيما القرارين 1559 و1701، مع ما يعنيه ذلك من ضرورة حصر السلاح بيد الدولة واتخاذ إجراءات لمنع حزب الله من الاستمرار بالتدخل في حرب اليمن، واتخاذ لبنان إجراءات جدية وموثوقة لضبط المعابر الحدودية اللبنانية". وتولت الكويت لعب دور قناة الاتصال مع الحكومة اللبنانية لإبلاغها بالرسائل السعودية.
لكن السياق الإقليمي يوحي بأن المشكلة كانت خارج لبنان، والمَخْرج أيضاً. فمنذ الإعلان عن اقتراب المفاوضات النووية بين ايران والدول الست من التوصل الى اتفاق، ظهر التوتر البالغ على ملامح السياسة السعودية وتمثل بتصريحات لمسؤوليها عبّرت عن إمكان تنويع الرياض خياراتها التسليحية وحتى إمكان السعي لامتلاك السلاح النووي، وألمحت كذلك الى اتخاذ "اسرائيل" حليفاً للمملكة. وقليلة هي الساحات التي يمكن للسعودية أن تنفّس فيها عن توترها، وقد يكون لبنان إحداها، إضافة الى اليمن وتشديد القمع الوحشي في داخل السعودية بحق من تحسبهم الرياض على ايران وهم أصحاب مطالب سياسية وحقوقية واجتماعية (تم تنفيذ أحكام إعدام جماعية بحق العشرات منهم مؤخراً). غير أن ملامح اتفاق نووي في فيينا أصبحت مكتملة تقريباً، ولم يعد في وسع السعودية، ولا حتى الكيان المؤقت "اسرائيل"، الحؤول دون ذلك. وتصريحات رئيس وزراء العدو بينيت عن الخشية من رفع الحرس الثوري من القائمة الأميركية لـ "المنظمات الارهابية" تعطي انطباعاً واضحاً عن موقع الكيان الهامشي وضعف قدرته على التأثير على مجرى الاحداث.
اليوم، مع حرب أوكرانيا وإيلائها أهمية استثنائية من قبل اميركا التي بدأت تقلل انخراطها في قضايا الشرق الأوسط، بدأت السعودية ومعها دولة الإمارات بحركة تهدف الى تشكيل محور جديد لتقليل الأضرار الناجمة عن التغيرات الدولية ولوضع حواجز التفافية جديدة في وجه إيران.
الجانب الإماراتي يبدو الدينامو الأساسي في هذا التحرك، وهو عادة يفكر ويعمل خارج الصندوق السعودي، لكنه يدرك ان لا نجاح لأي تحرك يقوم به من دون دعم سعودي. فهو بعد أن طبّع علاقاته رسمياً مع الكيان المؤقت، رتّب علاقاته مع روسيا وإيران وسوريا، وقد شارك أخيراً في قمة ثلاثية في القاهرة. وذكرت الصحافة الإسرائيلية أن اجتماع بن زايد - بينيت- السيسي تناول زيارة الرئيس الأسد إلى أبو ظبي، الأمر الذي يفسَّر على أنه تجديد لآمال قديمة بمحاولة إبعاد سوريا عن ايران مقابل عودتها للجامعة العربية. اللافت ان بينيت كان منفتحاً على نتائج محتملة لهذه الزيارة اذا كانت ستؤدي إلى "إقصاء" دور إيران، على حد تعبير صحيفة "تايمز اوف إسرائيل".
ويبدو ان الإماراتي رأى في حرب أوكرانيا محطة تشغل بال واشنطن، وهو أيضا يتحوّط لاحتمال إرخاء قبضة روسيا في سوريا بما قد يؤدي الى توسيع نطاق الحركة أمام كل من إيران وتركيا، وهما خصمان للمحور السعودي - الإماراتي. وتقوم رؤيته على عقد صفقة جديدة تسمح بتأسيس ثقل لدول الخليج في سوريا، بعدما كانت قد قررت عام 2011 الخروج منها وعزلها اعتقاداً منها ان نهاية النظام قد اقتربت، وأن هناك مكاسب لهم مأمولة من وراء ذلك.
هذا المسعى في اتجاه سوريا يحتاج إلى دعم السعودية، والأخيرة لها مصلحة الآن في فتح نافذة على سوريا، ومنها إلى لبنان، بعدما أعيتها الوسائل في إسقاط سوريا من خلال غرفة عمليات "الموك" في الأردن وغيرها. وأطلقت الامارات والسعودية وسلطنة عمان مؤخراً إشارات ايجابية لناحية إعادة العلاقات الديبلوماسية مع دمشق، ولا يُتصور أن تتم خطوة البحرين على الأقل من دون رضا سعودي.
وبعض الأقلام المعبّرة عن نمط التفكير الإماراتي ترسل اليوم إشارات إلى الرياض بأن التهدئة مع سوريا من شأنها أن تنعكس إيجاباً على الملف اللبناني بفعل علاقة دمشق الوثيقة مع حزب الله، وأن التهدئة مع لبنان قد تنعكس لاحقاً إيجاباً على ملف حرب اليمن حيث يرتبط الحزب بعلاقات مع أنصار الله.
حسابات السعودية في التهدئة المرحلية وتبريد بعض الملفات قد تتطابق مع حسابات مصر والإمارات في هذا الحقل، لكن ليس دائماً مع الحساب الإسرائيلي الذي يتغذى على مناخ التصعيد ضد إيران لتكوين محور عربي - اسرائيلي ضدها. ومن هنا تأتي محاولة الإماراتي لإقناع الاسرائيلي بعدم العرقلة والتصعيد لتأمين فرصة لنجاح هذا المسعى، على أن تكون مكافأته توسيع الفجوة لاحقاً بين سوريا العائدة إلى ما سمي "الحضن العربي" الرسمي وبين إيران، وتوفير المناخ الملائم لترسيم الحدود البحرية بين لبنان والكيان المؤقت. كما تريد الإمارات ضمان تأييد الكيان لمسعاها هذا بهدف تليين الاعتراض الاميركي على عودة سوريا، ودون ذلك قانون قيصر والاحتلال الاميركي لجزء من الأراضي السورية.
طبعا، هناك عقبات جدية أمام هذا التحرك على طول الخط، بسبب عدم إمساك اللاعبين فيه بأوراق قوية. لكن حرب أوكرانيا التي وسّعت الشرخ بين روسيا والغرب، هي فرصة للجميع من اجل إعادة مراجعة الأوضاع في المنطقة، بالاستفادة من الأولوية التي تمنحها واشنطن للملف الأوكراني، وهذا الأخير تحوَّل إلى مواجهة متدحرجة ومفتوحة مع دولة كبرى تسعى لتوسيع حضورها في مواجهة حضور أميركا في دول المنظومة السوفياتية السابقة.
من غريب الأقدار أن الحروب الكبرى تتيح أحياناً فسحة لتسوية مشاكل مزمنة. نتذكر أن لبنان الذي كان رازحاً تحت ظروف حرب أهلية متشعبة، استفاد في ذروة الانهماك الاميركي بحرب الكويت عام 1990، عندما حصل توافق أميركي - سوري تُرجم عملياً بإعادة توحيد المناطق اللبنانية كافة تحت لواء حكومة واحدة.
هناك مناخ مستجدّ يلوح في الأفق، وبعض المواقف تجاه لبنان قد نرى مؤشرات مماثلة لها في قادم الأيام.
إقرأ المزيد في: آراء وتحليلات
21/11/2024
خطاب الأمين: قوةٌ وتمكين ونصرٌ وتطمين
19/11/2024