آراء وتحليلات
التفوق الاقتصادي الصيني: تحول جذري في جيواستراتيجيا العالم
صوفيا ــ جورج حداد
حتى عشية الحرب العالمية الأولى كانت الامبراطورية البريطانية -في مرحلة ما بعد نابوليون- تمثل الامبراطورية الاستعمارية الأعظم في العالم، التي لا تغيب عنها الشمس في مشارق الأرض ومغاربها، فكانت "مركز العالم" سياسيًا وماليًا واقتصاديًا وعسكريًا، وكان الشعب الانكليزي مستكينًا راضيًا ومخدرًا بما يقدم له من فتات النظام الاستعماري على حساب شعوب العالم المستعمرة. وكانت الأم الانكليزية تجلس هادئة في الـtea time بعد الظهر وتتمتع بتناول الشاي والبسكويت والثرثرة مع صديقاتها، حيث تفاخر إحداهن بأن ابنها يرفع علم الامبراطورية فوق مناجم الذهب في أدغال افريقيا، وأخرى بأن ابنها يحمي قناة السويس، وثالثة بأن ابنها يحمي آبار النفط في ايران أو العراق، ورابعة بأن ابنها يحرس سهول القطن في الهند، وخامسة بأن ابنها يخدم في البحرية الملكية في جزر البحر الكاريبي في أميركا اللاتينية، وسادسة بأن ابنها يحمي مصالح الامبراطورية في القاعدة البحرية في هونغ كونغ في الصين.
وقد بادرت المانيا الى إشعال الحرب العالمية الأولى بهدف رئيسي هو: ازاحة بريطانيا عن مركز الزعامة العالمية، وإعادة التقسيم الاستعماري للعالم.
وقد انخرطت كل الدول الأوروبية في تلك المجزرة الرهيبة التي تسبب بها التكالب الاستعماري الغربي، وذهب ضحيتها عشرات ملايين البشر، وشاركت فيها السلطنة العثمانية الى جانب المانيا.
وأسفرت الحرب عن نتائج غير متوقعة من الجميع وأهمها:
ــ1ــ اندلاع الثورة الديمقراطية في شباط 1917 في روسيا، وسقوط القيصرية فيها، ثم اندلاع الثورة الاشتراكية الروسية الكبرى بقيادة الحزب الشيوعي، وخروج روسيا من جغرافية العالم الرأسمالي ــ الاستعماري، وتحولها الى "قطب مستقل" معاد للغرب الامبريالي، في انسجام تام مع التاريخ العريق للشعب الروسي العظيم في الصراع ضد الغرب الاستعماري منذ أيام روما القديمة.
ــ2ــ انهيار السلطنة العثمانية وتحول جغرافيتها السابقة (من البلقان الى اليمن الى شمالي افريقيا) الى منطقة عواصف سياسية واضطرابات ونزاعات لا تزال مستمرة الى اليوم.
ــ3ــ هزيمة مريرة لالمانيا، التي فرض عليها المنتصرون ما سمّي "تعويضات حرب"، قاسية جدًا، مما ألقى جماهير الشعب الالماني في براثن التضخم المريع والعوز والجوع، بحيث أصبحت أجرة العامل لا تكفي لشراء الخبز وحده، وبات سعر رغيف الخبز ألوف الماركات الورقية. وقد مهد ذلك لظهور النازية بزعامة هتلر تحت شعار "الثأر" revenge.
ــ4ــ رغم انتصارها، خرجت بريطانيا من الحرب مضعضعة وضعيفة، عسكريًا وسياسيًا، والأهم: اقتصاديًا. وهذا ما دفع الطغمة المالية اليهودية العالمية لنقل "مركزها العالمي" من لندن الى نيويورك سنة 1920.
ــ5ــ كانت الولايات المتحدة الأميركية أكثر المستفيدين من الحرب العالمية الأولى، أولًا لبعدها الجغرافي خلف المحيطات وعدم تضررها من الحرب، وثانيًا لأن البنوك الأميركية، التي يسيطر عليها المتمولون اليهود وشركاؤهم البروتستانت الانغلو ــ ساكسون، استفادت إلى أقصى حد من الحرب، عن طريق بيع الأسلحة وتقديم القروض الى كلا المعسكرين المتحاربين. ولكن بعد اندلاع الثورة الديمقراطية واسقاط القيصرية في روسيا في شباط 1917، ومن ثم اندلاع الثورة الاشتراكية وظهور "خطر الشيوعية" على اوروبا، وبعد رجحان كفة بريطانيا الانغلو ــ ساكسونية في الحرب، صوّت الكونغرس الاميركي للمشاركة في الحرب ضد ألمانيا في 6 نيسان 1917، أي بعد أكثر من سنتين ونصف السنة من اندلاع الحرب في 28 تموز 1914.
وبمشاركتها في الحرب، دشنت أميركا مرحلة التخلي عن "مبدأ مونرو" القائل بعزل القارة الأميركية عن "العالم القديم"، وبداية مرحلة "الانفتاح" و"الخروج الاميركي الى العالم". وكان الهدف الجيوستراتيجي من سياسة "الانفتاح" الأميركية الجديدة ليس بالتحديد دعم المعسكر البريطاني الانغلو ــ ساكسوني، بل الانطلاق من هذا الدعم، للتوجه نحو تشكيل كتلة مالية امبريالية يهودية ــ بروتستانتية ــ انغلوساكسونية، مندمجة بالدولة الأميركية، لفرض السيطرة الأميركية ــ اليهودية على العالم، ثم استيلاء أميركا على زعامة المعسكر الانغلوساكسوني ــ اليهودي ــ البروتستانتي. وكانت الطغمة المالية اليهودية العالمية، التي تمركزت في نيويورك، هي المحرك الأول للسياسة "الانفتاحية" الأميركية الجديدة. وطبقًا لهذه السياسة، أطل الرئيس الأميركي في حينه، وودرو ويلسون، على العالم، يتشدق بحقوق الشعوب والأمم في تقرير المصير، كمدخل ومبرر للتدخل الأميركي في السياسة الدولية، وفي الشؤون الداخلية لجميع الدول والبلدان، وإعادة بناء النظام العالمي وفق الأهواء والمصالح الأميركية ــ اليهودية.
وكانت القيادة الأميركية تعمل لانتزاع الأولوية من بريطانيا، عبر "مشاركتها" و"التعاون معها" اقتصاديًا.
وقد ازدهر الاقتصاد الأميركي بشكل غير مسبوق في عشرينيات القرن الماضي، وكان يعتمد بشكل كثيف على القروض المُقَدَّمة للدول الأوروبية وخاصة لبريطانيا، التي كانت تعتمد بدورها بشكل كبير على "تعويضات الحرب" المُنتزَعة من المانيا. وكانت تلك "التعويضات" موضوع نزاع دائم في اوروبا، أدى في النهاية الى نشوب الحرب العالمية الثانية. وعلى خلفية الأرباح السهلة التي كانت تجنيها من قروضها الأوروبية، ومن أجل تكديس المزيد من الارباح، أخذت البنوك الأميركية تقدم تسهيلات كبيرة جدًا للقروض الداخلية ولا سيما القروض العقارية والاستهلاكية العادية، فازدهرت في أميركا "ثقافة الاستهلاك"، وتضخمت بشكل كبير تجارة المفرق، وسلاسل المتاجر الكبرى، والتجارة والقروض الاستهلاكية، والاقتصاد البورصوي الوهمي، غير المرتبط بالانتاج، والذي تحول إلى بالون اقتصادي حقيقي انتفخ الى أقصى حد. وأخيرًا، ونظرًا لكون الجشع الرأسمالي دائمًا بلا حدود، "انفخت" هذا البالون، وبدأ الانهيار في سوق الأوراق المالية في وول ستريت في تشرين الأول 1929، الذي دشن الأزمة الاقتصادية الكبرى في أميركا، المُسَمّاة "الكساد الكبير"، وتفاقم الانهيار حتى سنة 1933، واستمر الركود إلى بداية الحرب العالمية الثانية في 1939.
وشكلت الحرب العالمية الثانية "الفرصة الذهبية" الأكبر للولايات المتحدة الأميركية، لأنه لم تسقط على أراضيها حتى قنبلة واحدة، بسبب بعدها الجغرافي عن مسرح القتال في "العالم القديم"، وتطور اقتصادها عدة أضعاف خلال الحرب، في حين أن أوروبا حل فيها دمار شامل. وفي نهاية الحرب وجدت دول أوروبا الغربية كلها، المنتصرة والمهزومة، أنها بحاجة إلى المساعدات المالية والاقتصادية الأميركية، وإلى الحماية السياسية والأمنية والعسكرية، الأميركية، من "الخطر الشيوعي"، الذي تفاقم بشكل مخيف بفعل الانتصار السوفياتي التاريخي على النازية، والدور المركزي والرئيسي للمقاومة الشعبية بقيادة الأحزاب الشيوعية الأوروبية ضد الاحتلال النازي.
وهكذا تحولت زعامة الكتلة الامبريالية اليهودية ــ البروتستانتية ــ الانغلوساكسونية، كليًا ونهائيًا، من بريطانيا إلى أميركا، وأنشأت أميركا هيئة الأمم المتحدة والبنك الدولي وصندوق النقد الدولي، لتكريس هذه الزعامة، وتحول الدولار الأميركي إلى عملة دولية رئيسية، بمعزل عن تغطيته الذهبية، ووضع نظام المدفوعات العالمي (سويفت)، بشكل عرفي، تحت تصرف الطغمة المالية الامبريالية الأميركية ــ اليهودية.
ومنذ نهاية الحرب العالمية الثانية، دخل العالم في ما يمكن تسميته "العصر الأميركي"، فأسست أميركا حلف الناتو في 1949 لتكريس هيمنتها العسكرية الكاملة على اوروبا غير السوفياتية، ونشرت أساطيلها الحربية وحاملات الطائرات في جميع البحار والمحيطات، وزرعت أكثر من 800 قاعدة عسكرية في جميع أرجاء ما سمته "العالم الحر"، الذي اعتبرته مدى حيويا لها.
والى جانب قوتها العسكرية، وخصوصًا امتلاكها السلاح النووي، كان الاقتصاد الأميركي المتغول هو الأداة الرئيسية للهيمنة على العالم، عن طريق الدولرة والسيطرة على النظام المالي العالمي، وعلى قطاع النفط والغاز الذي يرتبط به الاقتصاد العالمي بأسره، وعلى شبكة المواصلات والتجارة والبورصات العالمية.
وبالرغم من "اتفاقية يالطا"، التي وقعها خائن الشيوعية الأكبر ستالين مع روزفلت وتشرشل، في شباط 1945، التي تطلق يد أميركا في "العالم الحر" مقابل الاعتراف الغربي بالنفوذ السوفياتي في أوروبا الشرقية، وقبل أن ينجلي دخان الحرب العالمية الثانية، بدأت أميركا في ربيع 1946 "الحرب الباردة" ضد الاتحاد السوفياتي، ضمن خطة جيواستراتيجية تقضي:
أولًا ــ بفرض سباق تسلح قاس على الاتحاد السوفياتي الذي خرج من الحرب مدمرًا شر تدمير، من أجل انهاكه اقتصاديًا واضعافه سياسيًا.
ثانيًا ــ بمحاصرة وتطويق الاتحاد السوفياتي و"احتوائه" وحصر نفوذه ضمن منطقة المنظومة السوفياتية في أوروبا الشرقية.
ولكن في مطلع سنة 1953 عين جون فوستر دالاس وزيرًا للخارجية الاميركية، فاستبدل سياسة "الاحتواء" لتثبيت النفوذ السوفياتي في مكانه، بسياسة "اختراق" المنظومة السوفياتية، ومن ثم الاتحاد السوفياتي ذاته، وأخيرا "اختراق" وتفكيك روسيا نفسها، بالتعاون مع "الطابور الخامس" الموالي للغرب في صفوف البيروقراطية السوفياتية الستالينية والنيوستالينية. وقد توفي جون فوستر دالاس بالسرطان في 1959، إلا أن خطته "الاختراقية" ظلت هي نبراس السياسة الخارجية الاميركية حتى تفكيك الاتحاد السوفياتي في 1991، والشروع في تفكيك روسيا ذاتها في عهد يلتسين حتى نهاية سنة 1999، ومجيء بوتين الى السلطة مدعومًا من التيار القومي الروسي ــ الاورثوذوكسي، الذي أوقف انهيار الدولة الروسية، بادئًا بنفض الغبار عن الوف الصواريخ النووية السوفياتية القديمة وتوجيهها من جديد نحو جميع القواعد والأهداف الأميركية والأوروبية الغربية، والتهديد بإطلاقها فيما اذا تابعت أميركا التدخل في الشؤون الداخلية الروسية.
وخلال تلك المرحلة، وفي ظلال "الحرب الباردة" وسباق التسلح بين المعسكر الغربي بزعامة أميركا والكتلة السوفياتية، كانت الصين الشعبية تشق طريقها الخاص. فبعد انتصار الثورة بقيادة الحزب الشيوعي الصيني في 1949، رفعت القيادة الصينية الجديدة شعار تجاوز ما سمته "قرن المهانة: 1839-1949" الذي كانت فيه الصين الضعيفة ضحية للغزوات الاستعمارية الخارجية. ومشت الصين الشعبية بخطى أليمة ولكن ثابتة نحو نفض غبار التخلف الالفي عنها.
ولكن مراكز القيادة العليا للامبريالية الاميركية ــ اليهودية، التي ترسم خط سيرها في السياسة الدولية، وبنتيجة الرعب الذي انتابها أمام التفوق التسليحي النوعي لروسيا الجديدة، لم تعط أميركا الامبريالية الاهتمام الكافي للتقدم الصاروخي: التجاري والاقتصادي عامة، والعلمي ــ التكنولوجي خاصة، الذي كانت الصين الشعبية تحققه. بل انها ــ اي الامبريالية الاميركية ــ وقعت في فخ فتح أبواب الصين أمام الرساميل والتوظيفات الرأسمالية الخارجية، فتسابقت الوف الشركات الأميركية، الكبيرة والمتوسطة والصغيرة، في ماراتون توظيف مئات بل الوف مليارات الدولارات في الاقتصاد الصيني، متوهمة أنها بذلك تسيطر اقتصاديًا على الصين، كما فعلت في أوروبا بعد الحرب.
ولكن اللهاث خلف الأرباح والتسهيلات الضرائبية من قبل الدولة الصينية، جعل الدوائر المالية الأميركية تنسى أن الذي يقود الصين ليس أحزابًا برجوازية تخون المصالح القومية لشعوبها كالأحزاب اليمينية و"الدمقراطية ــ الاشتراكية" المزيفة، الأوروبية، بل هو الحزب الشيوعي الصيني الذي يكنّ حقدًا تاريخيًا عميقًا على الامبريالية والنظام الرأسمالي، والذي قدم عشرات ملايين الشهداء في مسيرته الكفاحية الدامية، ويستخدم الرساميل، براغماتيا، لدفن الرأسمالية بالرأسمالية، أي دفن الرأسمالية بأدواتها ذاتها، والتقدم نحو بناء "الاشتراكية ذات الخصائص الصينية". وخلال السبعين سنة بعد انتصار الثورة في 1949، وخصوصًا بعد "الاصلاحات الاقتصادية" التي قامت بها في بداية الثمانينيات من القرن الماضي، طورت الصين اقتصادها نوعًا وكمًا وضاعفته عشرات المرات. وفي العقود الأخيرة تحولت الصين الى "مصنع العالم"، وأصبحت السلع الصينية تشكل نسبة 80% من مستوردات أميركا ذاتها.
واليوم يقف العالم على عتبة تحول جذري تاريخي عميق في الوضعية الجيوستراتيجية العالمية. وتعمل الصين الشعبية الآن، عبر البرنامج المسمى "حزام واحد ــ طريق واحد" على انشاء بنية تحتية جديدة معولمة لشبكات الاتصالات والمواصلات والانترنت العالمية، البرية والبحرية والجوية والطاقوية والسيبيرانية. وهي تعمل بالتوازي لخلق نظام مالي وتجاري عالمي جديد، يقوم على ازاحة اميركا عن مركز الصدارة كأضخم اقتصاد دولة، يتحكم بمصائر العالم عبر التحكم بالنظام المالي والاقتصادي العالمي.
ان الشعب الصيني هو شعب كبير وقادر وخلاق، يمثل حوالى 20% من سكان الكوكب الارضي. وفي ثقافته القومية الكلاسيكية، التي استوعبها الحزب الشيوعي الصيني وعصرنها وطورها ودمجها بشكل خلاق بالفكر الاشتراكي العلمي، ينظر الشعب الصيني الى نفسه بوصفه الأخ الأكبر في العائلة الانسانية العالمية. وبهذه الصفة الاساسية فإن "الصيني" يعتبر أن عملية تحرره وتقدمه وازدهاره هي جزء لا يتجزأ من عملية تحرر وتقدم وازدهار "عائلته الانسانية" بأسرها.
واليوم، فإن الصين الشعبية العملاقة، الكونفوشيوسية ـ البوذية، الممتطية آلية السوق الرأسمالية، في خدمة "الاشتراكية ذات الخصائص الصينية"، تمسك باحدى يديها يد روسيا الاتحادية، القومية ــ الاورثوذوكسية، المشبعة بالروح الوطنية والأممية والفكر الاشتراكي العلمي، وتمسك باليد الأخرى يد ايران الثورية الاسلامية، التي تكافح بصلابة وتفانٍ وثبات كي تنزع عن العالم العربي ــ الاسلامي نير التبعية والخنوع للغرب الامبريالي، وادران التخلف والظلامية والجرب الفكري الوهابي، السلفي، التكفيري والارهابي. وتتجه هذه الاقطاب الشرقية الثلاثة معًا، في محور شرقي جديد، واحد وموحد، يعمل لبناء نظام عالمي حضاري تعددي، يقوم على اعادة تصويب المسيرة الحضارية للبشرية، كي يُدفن الى الابد النظام العبودي "الغربي" الذي أسسته "روما" القديمة منذ حوالى 2500 سنة، وتقوده اليوم الامبريالية الأميركية واليهودية العالمية، وكي تعود شمس الحضارة الانسانية لتشرق من جديد من "الشرق".
ـــــــــــــــــــــــــــــــــ
*كاتب لبناني مستقل
إقرأ المزيد في: آراء وتحليلات
23/11/2024