آراء وتحليلات
صوت العرب من الضاحية الحرّة
أحمد فؤاد
للمرة الثانية في أقل من شهر واحد، حزم رئيس الوزراء اللبناني نجيب ميقاتي حقائبه صوب مصر، وإلى مدينة شرم الشيخ في سيناء، للمشاركة فيما يسمى "منتدى شباب العالم"، بدعوة من الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي، فيما يبدو أنها خطوة هروب إلى الأمام أكثر من كونها زيارة متكررة لوجهة مفضلة.
ليس مطلوبًا بالطبع الاقتناع بأن السيد نجيب ميقاتي شاب في مقتبل العمر، حضر إلى منتدى الشباب للمشاركة وطرح أحلامه ورؤاه على غيره، وليس من المنطق القول إن المنتدى من الأصل هو تجمع عالمي، بل هو مجرد تجمع براق خالٍ من المعنى والمبنى، يريد به النظام المصري الحاكم إنشاء "بلد موازٍ"، فيه من التصفيق والضحكات والأناقة ما يعكس العالم الافتراضي للنظام، عالم لا يعرف الهم ولا الفقر، عالم بعيد عن مصر وعن القاهرة، يخاصم الناس بالقدر ذاته الذي يبتعد فيه عن الوطن، ويزينه النظام بدعوة عدد من الرؤساء الفارغين بدورهم من المسؤوليات، كالدورة الحالية مثلًا، والتي شهدت مشاركة رؤساء مالطا وكولومبيا وزامبيا ورئيس وزراء تنزانيا.
المؤتمر كغيره من مناسبات النظام المصري، يحاول فيها تصدير ما هو مقتنع أنها إنجازات غيرت الحياة في مصر، وبالمصادفة المأساوية، في اليوم الأول للمؤتمر فقد غرق نحو 20 طفلًا خلال توجههم إلى أعمالهم عبر "معدّية" على نهر النيل، أطفال دفعهم الفقر والعجز للخروج إلى العمل الشاق بدلًا من أن يكونوا مثل أقرانهم على مقاعد الدراسة في هذا الوقت، لتتجدد الرسالة الوحيدة، وهي أن النظام لا يعمل سوى لمصلحة طبقة أنشأها الأميركي ورعاها ويستمر في دعمها، فكل الطرق والمدن الجديدة مخصصة لطبقة لا يربطها بمصر الحقيقية سوى إنها المكان الذي يسيطرون عليه، ويمتصون دم شعبه.
وعلى هامش أعمال المؤتمر، عقد نجيب ميقاتي جلستين مع السيسي ورئيس وزرائه، بدعوى مناقشة إمداد لبنان بالغاز المصري عبر سوريا، وهي مفارقة غريبة، إذ يعلم القاصي والداني أن قضية مثل هذه بيد المشغل الأميركي لا المندوب المصري، وهو تصريح خرج على لسان وزير البترول بالنظام الحاكم، طارق الملا، حين قال نصًا: "إن مصر تنتظر موافقة أميركية بالإعفاء من قانون قيصر لبدء ضخ الغاز إلى لبنان عبر سوريا"، هكذا بلا تجميل، وإن كانت مساحيق الأرض كلها لن تجمل وجه البومة، ولن تجعلها كائنًا آخر.
ولا يمكن المجادلة بأن وضع لبنان كدولة جيد، بل هو بلد في أزمة عنيفة، أزمة بدأتها أياد أميركية مدعومة بقفازات عربية، تحاول جاهدة النيل من تجربة الانتصار العربي على الكيان ومَن وراءه، أزمة بدأت بتخطيط مبيت لصناعة كارثة مالية، تحوّلت بسرعة إلى تسرب في الثروات الخاصة والمال العام ـ سواء بسواء ـ ثم زاد التسرب ليصبح نزيفًا هائلًا في الإمكانيات، ويمكن لأي متابع بسهولة مطالعة العوارض والعواقب المؤكدة من الوقوف على باب مرحلة عجز كامل وشامل عن قيام الدولة بدورها.
التوجه الحقيقي لحكومة تواجه أزمة شاملة، وعميقة، في بلد ما، يجب أن يكون على العكس تمامًا مما فعلته وتفعله حكومة ميقاتي، لا الولايات المتحدة ولا أتباعها العرب في المنطقة سيصبحون جزءًا من الحل، بل المؤكد أنهم هم جذر المشكلة وأصلها، والمستفيدون من استمرارها، الداخل اللبناني هو مفتاح الحل بالنسبة للبنان، والتوجه إلى الشرق الصاعد هو بداية الطريق، ووضع التوصيفات الدقيقة للعدو والصديق أول خطوات النجاة من الوضع الحالي.
السيد نجيب ميقاتي، لم يدرك أن المؤتمر العربي الحقيقي كان يجري في الضاحية الحرة، ضاحية بيروت، حيث الدماء الزكية والنفوس الحرة مستمرة في رواية حكاية كسر الإرادة الأميركية مرات ومرات، وتشهد على انتصارات عزّ على كل الأنظمة العربية مجتمعة تحقيقها في وجه الكيان، الضاحية حيث الحلم والصدق كانت تستضيف مؤتمرًا حول ما يتعرض له أهلنا في الجزيرة العربية من ظلم وعدوان بيد نظام آل سعود الإرهابي.
الضاحية المقاومة، المنتصرة، كانت لسان الحق، وصوت العرب في هذا الزمان. لكن بالطبع ليس كل شخص لديه من الإدراك لرؤية الشاهد الراقي، والفعل النبيل لمقاومة عربية، صدقت مع جماهيرها فصدقتها الجماهير، وباتت مع الوقت، وبإثبات من الزمن والحوادث، قلعة الصمود الأولى للأمة العربية كلها، من المحيط إلى الخليج، وقبل كل شيء: صوت الشهيد ووصيته.
ولعل الهدف الأسمى لما جرى في المؤتمر السياسي لدعم المعارضة في الجزيرة العربية، هو أنه أعاد الضوء إلى قضية غائبة، قضية الاستبداد السعودي ضد فئة من المواطنين، متسلحًا برداء الطائفية العفن، ومستندًا إلى رعاية أميركية كاملة وشاملة، لتنتج في النهاية مشهدًا أشبه بمعسكرات الاعتقال النازية في الحرب العالمية الثانية، ما يخرج منها وما يظهر حتى الآن أقل القليل مما يشهده الشعب العربي في الجزيرة العربية من جرائم تفوق الخيال.
إقرأ المزيد في: آراء وتحليلات
23/11/2024