آراء وتحليلات
روسيا والغرب: إشكالية العلاقة وصراع القوى والقوة
بتول قصير
سلكت العلاقات الروسية ـ الأمريكية عبر تاريخها مسارات متعرجة ما بين تباين وتناقض في طبيعة هذه العلاقات منذ عهد روسيا القيصرية مروراً بالاتحاد السوفياتي وتفكك هذا الأخير في بداية التسعينيات. هذا التفكك أفضى الى اعتماد نمطٍ جديد في العلاقات الروسية ـ الأمريكية قائمة الى حدٍ ما على مبدأ الشراكة لا التصادم، وأنتج تحولاً كبيراً قوامه التنافس وليس الصراع كما كان الوضع عليه إبان الاتحاد السوفياتي.
فقد شهدت منطقة الشرق الأوسط إبان الحرب الباردة صراعاً محتدماً بين الولايات المتحدة الأمريكية والاتحاد السوفياتي، وذلك بالنظر لما كانت تشكله هذه المنطقة بالنسبة للقطبين، ومحاولات اعتماد كل منهما على أساليب ووسائل مختلفة لضمان مكانة مهمة في المنطقة تساعده في دفع الطرف المنافس خارجها بما يمهد للقضاء عليه.
ربع قرنٍ انقضى على تفكك الاتحاد السوفياتي وانهيار نظام الثنائية القطبية، انتهجت فيه روسيا مساراً حافلاً بالهزات والأزمات والتوترات على مستوياتٍ عدة، اقتصادية وسياسية وعسكرية، مواجهةً الكثير من المخاطر التي تهدد كيانها كدولةٍ فيديرالية، أعقبها تحولات وتقلبات على صعيد علاقاتها الخارجية وخاصةً مع خصمها الأكبر والمباشر المتمثل بالولايات المتحدة الأمريكية. فانهيار نظام الثنائية القطبية أبرز نظاماً دولياً جديداً تجلى احد ملامحه بظهور الولايات المتحدة الأمريكية كقوة وحيدة ومهيمنة، تسعى الى تعزيز نفوذها خاصة في منطقة الشرق الأوسط، هذه المنطقة التي لطالما حظيت باهتمامٍ واسع ومباشر في استراتيجية القوى العظمى لأهميتها الجيوسياسية والنفطية التي تغني هذا الشرق.
وبعد التعافي الاقتصادي الروسي في ظل حكم الرئيس فلاديمير بوتين، وخاصةً بعد توليه الحكم للمرة الثانية عام 2000، فعلى المستوى السياسي، نجح بوتين في وقف التدهور والتخبط اللذين عانتهما روسيا في نهاية حقبة التسعينيات، واستطاع تكوين إدارة قوية. وبدلا من تراجع دور روسيا دوليا، عادت لتؤدي دورا مؤثرا، وكان حضور موسكو بارزًا في عدة ملفات مهمة تعارض فيها الموقف الغربي، مثل ملف البرنامج النووي الإيراني. وبدأت روسيا الاتحادية بالسعي لتعزيز مكانتها وحجز موقع مهم في موازين القوى العالمية ولتقدم نفسها كلاعب جدير في السياسة الشرق أوسطية.
هذا النهوض الروسي لم يرق للولايات المتحدة الأمريكية صاحبة الأطماع اللامتناهية في منطقةٍ غزيرة بمواردها، فقابلت ذلك النهوض باعتراض تمثل بمحاولات حثيثة لمنع تعاظم الإمبراطورية الروسية ودخولها إلى أكبر محاور النفوذ الأمريكي في الشرق الأوسط. من هنا عاد صراع القوى إلى الواجهة من جديد بين قطبين يسعى كل منهما لترتيب أولوياته وإحكام سيطرته، فأضحى الشرق الأوسط حلبة صراع بين القوتين الأمريكية والروسية.
وبناءً عليه نطرح الإشكالية التالية: ما هي العوامل التي أدت إلى احتدام عملية التنافس بين روسيا والولايات المتحدة الأمريكية؟ هل خلفيات الصراع جيوسياسية أم طاقوية أم عسكرية؟
بدايةً يمكننا القول إن الصراع الأمريكي ـ الروسي شائك ومعقد ويحوي ملفات مختلفة لا تقل إحداها أهميةً عن الأخرى، بحيث تعزز الواحدة تلو الأخرى أساسيات هذا الصراع وتنمّيه مع مرور الوقت وتبعاً للتطورات الدولية. وهنا سنتناول خمسة ملفات حساسة في تاريخ صراع القطبين والتي أثرت في رفع مستوى التوتر والتنافس فيما بينهما:
1ـ الموقع الجيوسياسي للشرق الأوسط
2ـ برنامج الدرع الصاروخي الأمريكي
3ـ توسيع حلف شمال الأطلسي
4ـ الملف الطاقوي في منطقة الشرق الأوسط
5ـ الملف النووي الإيراني
1ـ الموقع الجيوسياسي للشرق الأوسط
لا بد من الاعتراف بأن هذا الصراع المحتدم في منطقة الشرق الأوسط بين قوتين كبيرتين لا يتأتى من فراغ. فلمنطقة الشرق الأوسط أهمية جيوسياسية مقارنة بغيرها من مناطق العالم ليس من ناحية الجغرافيا السياسية وحسب، وإنما لاستخدام القوى الكبرى لهذا الموقع الجغرافي المتميز استخداماً تنافسياً يخدم مصالحها ويعاظم نفوذها. فالمنطقة تتوسط دائرة تضم ثلاث قارات هي آسيا وأوروبا وإفريقيا وتحظى بتواجد ثلاثة أرباع سكان الأرض عليها، ومن ناحية أخرى تشرف على أكبر مجموعة مائية في العالم إضافة لامتلاكها قنوات الملاحة البحرية كقناة السويس ومضائق البوسفور وهرمز وباب المندب، ناهيك عن الوفرة في الثروات الطبيعية والمعدنية ومصادر الطاقة، وتنوع المناخ، والأهم من ذلك كله المساحات العظيمة التي تتيح نشر القواعد العسكرية في أوقات الحرب وامتصاص الضربات حتى غير التقليدية منها.
الجدير ذكره أن هذه الأهمية ظهرت مبكرةً لدى الولايات المتحدة يوم صرّح ألفريد ماهان بتوصيفه الشرق الأوسط بأنه المنطقة الأولى، وهي أي امريكا لا تخفي اهتمامها بهذا الشرق بتاتاً، فمنذ عقود وخطابها بأن الشرق الاوسط وحدة جيوسياسية تتضمن منطقتين متميزتين هما جوار "إسرائيل" والخليج النفطي. بالتوازي مع هذا الاهتمام الامريكي، فإن العامل الجغرافي يشكل دفعاً مهماً للدور الروسي في الشرق الاوسط في سبيل تقدمه، ومن هنا تنطلق السياسة الروسية في رؤيتها لأهمية القيمة الجغرافية والاستراتيجية له باعتباره سلم الاهتمامات العالمية. وهذا ما يفسر هذا التناحر لقوتين كروسيا وأمريكا إذ يمثل منصة ارتكاز ورافعة سياسية لدور كل منهما.
2ـ برنامج الدرع الصاروخي الأمريكي
يعد هذا الملف أحد أبرز الملفات تعقيداً على صعيد العلاقات الروسية ـ الأمريكية، فبينما عدته الولايات المتحدة عاملًا فاعلًا لصالح حفاظها على أمنها القومي وأمن مصالحها المنتشرة عبر العالم، عدته روسيا في المقابل عاملًا مهددًا لأمنها النووي.
فبعد الاتفاق عام 1972 بين القوتين العظميين آنذاك على استمرار العلاقة وفق مبدأ الردع المتبادل، اعتبرت روسيا أن إكمال هذا المشروع يعني تفوقًا أمريكيًا غير مسبوق، وانكشافًا استراتيجيًا لظهرها، وبذلك تكون قد فقدت ميزة الردع المقابل. رفضت روسيا المشروع رفضًا قاطعًا، ورفضت التبريرات الأمريكية بأنه موجه نحو إيران، وليس نحوها، وقالت إنه يهدد أمنها النووي والقومي، كما عدت نشر النظام الراداري في جمهورية التشيك بمثابة نشر نظام كامل للتجسس عليها. كل تلك العوامل السالفة الذكر زادت من توتر العلاقات بين الطرفين، وعلى العكس، كلما صدرت تلميحات أو إشارات بإمكانية وقف البرنامج، ازداد الحديث عن قرب انفراج في العلاقات بينهما.
3ـ توسيع حلف شمال الأطلسي (الناتو)
بعد انضمام جمهوريات التشيك وهنغاريا وبولندا، أولى دول حلف وارسو المنحل إلى حلف شمال الأطلسي، قرر وزراء الناتو في اجتماع لهم في براغ عاصمة التشيك في تشرين الثاني/ نوفمبر عام 2002 توجيه دعوات رسمية إلى كل من استونيا ولاتفيا وسلوفينيا وسلوفاكيا وبلغاريا ورومانيا للانضمام إلى التحالف العسكري الأطلسي، ومن ثم تقدم كل من كرواتيا وألبانيا وجمهورية مونتينيغرو بطلبات الانضمام إلى حلف الأطلسي، الأمر الذي عزز من مخاوف روسيا الاتحادية، معتبرة هذا التوسع المدعوم أمريكيًا تحديًا واضحًا لوصول الناتو حتى حدودها.
وليس خافيًا على أحد أن هدف أمريكا الأول والأساسي من هذا التوسع هو تطويق روسيا، لذلك دعمت الجهود لانضمام الدول الأخرى الراغبة إليه. فقد اجتمعت ألبانيا وكرواتيا وجمهورية مقدونيا وجورجيا في مدينة دوبروفنيك في كرواتيا في أواسط عام 2006 لتعزيز طموحاتها بالعضوية، وقد دعمت الولايات المتحدة صراحة بلدان البلقان الثلاثة، لكنها دعت إلى قبول جورجيا وأوكرانيا أيضًا. أما روسيا فرفضت رفضًا قاطعًا هذا التوسع وخاصة فيما يتعلق بضم كل من أوكرانيا وجورجيا اللتين ترى روسيا أنهما استغلتا حالة الضعف الروسية بعد انهيار الاتحاد السوفييتي بغية رسم خريطة جيوسياسية جديدة لتلك المنطقة، بحيث تكون خارج النفوذ الروسي، إلا أن روسيا، وكما هو الحال بالنسبة إلى الولايات المتحدة، ترفض أن تحدث أية تدخلات على حدودها.
4ـ الملف الطاقوي في الشرق الأوسط
بما أن النفط والغاز هما مصدران حيويان للطاقة، إلا أن مفهوم أمن الطاقة يعد من المفاهيم الحديثة التي يتم التركيز عليها بين الدول، فكانت ولا زالت محاولات السيطرة على تلك المصادر من أهم استراتيجيات الدول والتي من بينها الولايات المتحدة وروسيا. أصبحت منطقة الخليج بمثابة جزيرة عالمية للنفط والغاز، ما يعني أن هذه المنطقة مرتبطة ارتباطًا عضويًا بالاقتصاد العالمي ولا يمكن الاستغناء عنها. هذه المنطقة يمتلك نفطها مزايا عدة كانخفاض تكاليف انتاج البترول وذلك بسبب ارتفاع معدلات الانتاج وقلة عمق الآبار وارتفاع نسبة النجاح في اكتشافه وما يجر معه من نفقات البحث المطلوبة، إضافة الى التنوع في الخامات النفطية بين خفيفة ومتوسطة وثقيلة في منطقة واحدة وهذا ما يتناسب مع مختلف الأسواق العالمية.
وبالنسبة للجانب الأمريكي، فقد حظيت مسألة النفط في الشرق الأوسط باهتمام بالغ من قبل الادارات الأمريكية المتعاقبة لما يشكل هذا النفط من مصلحة لها بشكل خاص وللدول الكبرى بشكل عام بسبب الاحتياطات الضخمة السهلة الاكتشاف والمنخفضة التكاليف مقارنة بغيرها من مناطق أخرى في العالم، بالإضافة إلى دواعٍ أخرى أهمها الاحتياجات النفطية الأمريكية، فهي تستهلك ما يقارب 25% من الانتاج العالمي للنفط. إشارة الى أنها تستورد ثلثي هذا الاستهلاك من منطقة الشرق الأوسط ما يجعله بؤرة اهتمام من جانبها. وتكمن مصالح الشركات الأمريكية في حرمان الشركات النفطية المنافسة لها في صناعة النفط لتبقى الاولى عالميًا على هذا الصعيد.
في المقلب الآخر، فإن دواعي اهتمام روسيا بمسألة الشرق الأوسط تنطلق من سد الباب بوجه الولايات المتحدة الأمريكية من التحكم بأسعار النفط والذي يضر بمصالح الدول الكبرى المنافسة كروسيا على وجه الخصوص. وهذا ما يبرر سعي الرئيس الروسي فلاديمير بوتين إلى طرق أبواب الشرق الأوسط مجددًا في محاولة منه لمزاحمة الولايات المتحدة الأمريكية، وكان ذلك عبر العديد من الزيارات واللقاءات التي قام بها مع زعماء المنطقة. فالعامل الاقتصادي يمثل عاملًا أساسيًا تجاه المنطقة وأحد المحددات الاستراتيجية الروسية، ويعود ذلك الى ارتفاع تكلفة استخراج النفط الروسي في سيبيريا بسبب الصعوبات التقنية.
إن ملامح التنافس بين روسيا والولايات المتحدة الأمريكية في مجال الطاقة في منطقة الشرق الاوسط تظهر مؤشراته برغبة الولايات المتحدة للحفاظ على أدنى مستوى من أسعار النفط عبر التحكم بها، في مقابل روسيا التي ترغب في الحفاظ على ارتفاع أسعار النفط الذي يشكل مخرجًا لها لتعافي اقتصادها.
5ـ الملف النووي الايراني
أضحى الملف النووي الإيراني هاجس الولايات المتحدة المستمر، فهي تثيره كقضية شائكة تثقل كاهلها لما يشكله من خطر على حليفتها "إسرائيل"، بينما لا ترى روسيا في البرنامج الإيراني ما يستدعي تخوف الولايات المتحدة أو المجتمع الدولي إذ تراه سلميًا إلى حد الآن.
وفي ضوء مواصلة روسيا موقفها الداعم لطهران بامتلاك التقنية النووية، وإنشائها المزيد من المفاعلات النووية الإيرانية لم يكن مستبعدًا لجوء الكونغرس الأمريكي إلى صياغة قانون يفرض حظرًا على الشركات الروسية المتعاملة مع طهران على اعتبار أن روسيا هي الحليف العسكري لإيران، وبالتالي ما تشكله إيران من خطر على مصالح الولايات المتحدة في الشرق الاوسط بشكل عام وفي مسالة الصراع العربي ـ الاسرائيلي بشكل خاص.
بناءً عليه يعد البحث في مصير العلاقات الروسية ـ الامريكية أمرًا بالغ التعقيد والتشابك نظرًا لاستراتيجية كل من الطرفين والعوامل التاريخية ايضًا، فروسيا التي تسعى لاسترجاع مكانتها العالمية عبر وضع استراتيجية تقوم على البراغماتية وليس الايديولوجية، يقابلها توجس أمريكي من التهديد الذي تشكله على نفوذها في الشرق الاوسط، خاصة أن التحرك الروسي اصطحب معه تقاربًا صينيًا وتحالفًا إيرانيًا، مما دفع الولايات المتحدة لتوسيع بقعة التنافس إلى مناطق النفوذ الروسي كسوريا واوكرانيا، والعمل على خفض أسعار النفط بهدف إلهاء روسيا بالمشاكل والأزمات قاطعة الطريق عليها، ما يتيح لأمريكا إعادة ترتيب أوراقها الداخلية والخارجية. إلا أن روسيا اليوم تتمتع بميزة إضافية للتحرك يبدو أنها غابت عن أمريكا، تعطيها نقطة أولوية على صعيد التعامل مع الملفات العالقة. فأمريكا وبعد عشرين عامًا من الوجود العبثي في افغانستان وانسحابها المفاجئ وعزمها على الانسحاب آواخر العام الحالي من العراق وإستراتيجيتها في الحرب على "الإرهاب الإسلامي" أفضت إلى أن تتحرك روسيا بقوة ضمن محيطها الإقليمي، وأمريكا حتى إن كانت تتظاهر بالعكس، هي أمام معضلات كبيرة وإخفاقات لطالما حاولت تزيينها لتبدو انتصارات، بينما تتمتع روسيا بهامش واسع من خيارات التحرك، أقله استطاعتها توجيه ضربة قوية إلى صميم الإستراتيجية الأمريكية في ما يسمى بـ"حربها على الإرهاب".
إقرأ المزيد في: آراء وتحليلات
23/11/2024