آراء وتحليلات
إيران مركز القيادة في الملف النووي: من أين يبدأ الحل؟
د. علي دربج - باحث ومحاضر جامعي
في الوقت الذي يتوسل فيه بعض الساسة اللبنانيين السعودية، ويعلو صراخهم ليل نهار مدحًا وثناءً وتعظيمًا وتمجيدًا وتبجيلًا بالمملكة، بدءًا من رأس الهرم وصولًا الى أصغر حاجب في قصور الملك والامراء، للحصول على صك براءة وطلب السماح والغفران، ونيل الرضى وشهادة طاعة او تبعية في مسألة تشكل اعتداءً على السيادة اللبنانية، ها هي ايران تقدم دروسا للعالم اجمع في السيادة والاستقلال والقرار الحرّ والأصول الدبلوماسية، فضلًا عن الندّيّة في التعامل مع أقوى دولة في العالم أي الولايات المتحدة ومن ورائها المجتمع الدولي كله، في قضية هي الاكثر صعوبة وتعقيدا على مستوى القارات الخمس، وعنينا بها المفاوضات النووية.
منذ حملته الانتخابية، رفع الرئيس الامريكي جو بايدن، شعار العودة الى الاتفاق النووي، لكن أعضاء فريق ادارته السياسي والدبلوماسي، لطالما ردّدوا أن الولايات المتحدة لم تكن مستعجلة لإنجاز أي شيء.
في قمة مجموعة العشرين التي عقدت في روما اواخر الشهر الماضي، قالت الولايات المتحدة وحلفاؤها إنهم "مقتنعون بأنه من الممكن" إعادة الجميع إلى الامتثال للاتفاق النووي. وقد عدّ ذلك آخر محاولة من الحكومات الغربية لإنقاذ هذا الاتفاق، المعروف رسميا باسم خطة العمل الشاملة المشتركة. والآن، على الأقل، هناك موعد للبدء في تحقيق ذلك: 29 الشهر الجاري عندما تستأنف المحادثات في فيينا، بعدما كانت بدأت بالفعل من جديد في نيسان الفائت ـــ كانت قد توقفت لعدة اعوام بسبب انسحاب الرئيس دونالد ترامب من الاتفاق النووي ــــ بين طهران والأطراف الأخرى -بمشاركة الولايات المتحدة بشكل غير مباشر- حيث تم إحراز بعض التقدم على الأقل. لكنها عُلّقت في حزيران الماضي.
وبعيدا عن الرؤية الايرانية ومطالبها المعروفة والدائمة -رفع العقوبات الظالمة- وكون واشنطن هي التي نقضت الاتفاق من طرف واحد، خلافا للقواعد الدبلوماسية والقانونية الدولية المتبعة، قد يكون من المفيد مقاربة هذه الجولة المقبلة من المفاوضات، من الزاوية الامريكية تحديدا، للخروج بصورة علمية واقعية وافية وشاملة، تتيح لنا تكوين فكرة ما، عمّا يمكن ان تؤول اليه الامور مستقبلا، فضلا عن معرفة التوقعات المنتظرة من هذا الحدث الشاخصة اليه انظار العالم اجمع.
لنتابع القراءة سويا
حاليا، إنّ الهدف، من أية محادثات، هو دفع كلا الجانبين إلى التنازل - توقف إيران عن القيام بأشياء مثل إنتاج الوقود النووي في أجهزة الطرد المركزي السريعة من الجيل الجديد، وفق النظرة الأميركية - بالمقابل على الولايات المتحدة رفع العقوبات، مثل تلك المفروضة على قطاع الطاقة الإيراني وأي شخص على علاقة به، وبالتالي الوصول إلى ما يسميه الدبلوماسيون والمفاوضون "الامتثال المتبادل".
لكن هذا هل بالأمر السهل؟ لنكتشف ذلك
عمليًا، سيواجه إحياء خطة العمل المشتركة الشاملة (JCPOA) احتمالات صعبة. فمن جهة أشارت إيران إلى أنها ستعود إلى طاولة المفاوضات. ومن جهة اخرى، تشكل التصريحات التي أدلى بها الأوروبيون والولايات المتحدة في مجموعة العشرين أيضا، استعراضا لطيفا للوحدة. لكن هذه مجرد ضمادات صغيرة على الثقة السياسية المحطمة بشدة بين واشنطن وطهران.
الان لنرَ ما الذي تريده واشنطن.
تهدف ادارة بايدن الى الوصول بسرعة إلى تفاهم وتنفيذه بشأن العودة المتبادلة إلى "الامتثال" لخطة العمل الشاملة المشتركة، كما قال المتحدث باسم وزارة الخارجية نيد برايس الأسبوع الماضي. في 4 تشرين الثاني الجاري، أوضح برايس "إن ذلك سيعيد البرنامج النووي الإيراني مرة أخرى إلى المربع الذي كان فيه لعدة سنوات بعد تنفيذ الاتفاق في عام 2016".
غالبًا ما انتقد معارضو الاتفاق النووي الإيراني، المعاهدة لأنها فشلت في معالجة ما اسموه "الأنشطة الخبيثة الأخرى لإيران، مثل برنامج الصواريخ الباليستية وتدخلها ودعمها لحلفائها في منطقة الشرق الاوسط". غير أنه عندما يتعلق الأمر بـ "المحافظة على الاتفاق وتعزيزه"، تقول الادارة الحالية إنها "تريد إعادة الجميع إلى ذلك الامتثال المتبادل أولا، وبالتالي فإن خطة العمل الشاملة المشتركة ستتعامل، كما فعلت من قبل، مع الأنشطة النووية الإيرانية فقط".
يعتقد بعض الخبراء الامريكيين أن استعادة خطة العمل، ستكون نقطة انطلاق لمزيد من التعاون، أو على الأقل انتصارا لمنع انتشار الأسلحة النووية، في حين يتم التعامل مع ما تسميه "مغامرات إيران الإقليمية" في منتديات أخرى. لكنهم يقرون بوجود تعقيدات امريكية بالدرجة الاولى تعرقل ذلك، وتتمثل بازدواجية إدارة بايدن التي تواصل فرض عقوبات على إيران بسبب أمور، بما في ذلك دفعة حديثة تتعلق ببرنامجها للطائرات دون طيار، وهي علامة على أن الولايات المتحدة مصرّة على مواصلة الضغط، والمضي قدما في السير بسياسة ترامب التي تعتمد مبدأ دفع طهران للرضوخ والتنازل لواشنطن في كل الملفات.
ربما تكون طهران قد تباطأت في العودة إلى المفاوضات لمحاولة بناء نفوذها من خلال الاستمرار في دفع برنامجها النووي. فامريكا بدورها، لم تتنازل، حيث استنفدت الكثير من نفوذها لخنق إيران بالعقوبات -التي لا تزال تتصاعد- ومع ذلك اظهرت طهران قدرتها على تحمُّل المزيد من الضغط، وهو ما يفقد واشنطن صوابها ويجعلها تهدد باللجوء الى القوة العسكرية في كل فترة، واخرها ما قاله وزير الخارجية أنطوني بلينكين في نهاية الأسبوع الماضي من ان "كل خيار مطروح على الطاولة". لكن يبدو من غير المرجح أن يكون لدى الإدارة رغبة في مزيد من التدخل العسكري في المنطقة.
إذًا ما هي العقدة التي تؤخر الحل؟ الجواب في السطور التالية:
من المعروف أن واشنطن هي من الغى الاتفاق النووي، وسط صمت وعجز اوروبا وعالمي حتى اقله عن رفع الصوت بوجه ترامب، واستنكار ما اقدم عليه، وتحميل ادارته تبعات انتهاك معاهدة دولية اقرت برعاية الامم المتحدة. فالجميع بلعوا السنتهم آنذاك. والانكى انهم طالبوا ايران بالالتزام بالمعاهدة!
وبناء على ذلك، لا يمكن لايران ان تلدغ مرتين، من هنا طلبت طهران شيئًا آخر -غير الامتثال المتبادل- قد يكون من الصعب للغاية تحقيقه ألا وهو: ضمان عدم اختفاء كل شيء إذا تولى شخص اخر رئاسة امريكا - أو جاء ترامب مرة أخرى - الى الحكم.
اما السؤال الكبير الذي يطرحه الدبلوماسيون الامريكيون ويحارون في معرفته، قبل أي محادثات جديدة، هو ما الذي قد تريده إيران بالضبط؟
هنا فلنأخذ الاجابة من إسفانديار باتمانجليج، الزميل الزائر في المجلس الأوروبي للعلاقات الخارجية (ECFR)، الذي قال "هناك افتراض أن إدارة (رئيسي) هذه سوف تتخذ نهجًا متطرفًا في المفاوضات".
ويضيف "هذا النهج "المتطرف" هو نوع من الطريقة اللطيفة للقول إن طهران يمكن أن تقدم طلبًا لا يلقى قبولا لدى الولايات المتحدة، مثل الضغط من أجل المزيد من تخفيف العقوبات بما يتجاوز ذلك المتعلق ببرنامجها النووي، أو من خلال دعوة الولايات المتحدة إلى تقديم دعم اقتصادي لها، أو إرجاء العقوبات أولاً".
وتابع "من المرجح أن تجادل إيران بأن الولايات المتحدة هي التي فجرت الصفقة وأن طهران ظلت ملتزمة لمدة عام، لذا فإن الأمر متروك للولايات المتحدة لإثبات أنها تتصرف بحسن نية. لكن هذا الخط مرهق بعض الشيء الآن بعد أن انتهكت إيران الاتفاق بالتأكيد أيضًا".
بتوصيف امريكي اكثر دقة، كلا الجانبين الآن بعيد جدا عن الامتثال للاتفاق. قال صامويل هيكي، محلل أبحاث في "مركز الحد من الأسلحة وعدم الانتشار"، وهو منظمة غير ربحية مكرسة للقضاء على تهديد الأسلحة النووية "لذلك من المنطقي لكلا الطرفين اتخاذ خطوات تدريجية للعودة إلى الاتفاق".
حتى إذا لم تتجه إيران إلى أقصى الحدود ، فإن الشكل الذي سيبدو عليه تخفيف العقوبات بالضبط ، وكيف سينجح، سيكون جزءًا كبيرًا من إنجاح هذه المفاوضات. وفي هذا الاطار اكد أليكس فاتانكا، "مدير برنامج إيران في معهد الشرق الأوسط "، أن "تخفيف العقوبات الذي وعدت به خطة العمل المشتركة الشاملة (JCPOA) في عام 2015 لم يتم الوفاء به بالكامل كما كان يأمل الايرانيون".
وماذا عن الضمانات لإيران برفع العقوبات؟
ما اكتشفوه في ايران، حقيقة، هو أن التهديد بعقوبات أمريكية لا يزال يلوح في الأفق ويتدلى من فوق رؤوسهم. على الورق، يمكنهم التجارة -اي اميركا والغرب مع العالم. بينما "في الواقع، لا تزال الشركات والعديد من البلدان بعيدة عن إيران"، وهو ما يتقاطع مع كلام آية الله السيد علي خامنئي، الذي قال الشيء ذاته: إيران تريد تخفيف العقوبات ليس فقط على الورق، ولكن "من الناحية العملية".
هذا المطلب الأول، قد يزيد الوضع تعقيدا بسبب طلب ثان: نوع من الضمان أن هذه الصفقة قادرة على تحمل التحولات السياسية الداخلية في الولايات المتحدة، خصوصا وان المعارضة للاتفاق الإيراني لا تزال قائمة، لا سيما بين الجمهوريين، كما غرد السناتور تيد كروز مؤخرا عن الاتفاق الإيراني قائلا: "من المؤكد بنسبة 100 بالمائة، أن أي رئيس جمهوري في المستقبل سوف يمزقه".
في هذه النقطة بالذات، تبزر مسألة مصداقية الولايات المتحدة التي تشكل تحديا حقيقيا، لأنها ليست شيئا تستطيع الولايات المتحدة تحقيقه بسهولة، حتى لو كانت إدارة بايدن ترغب في القيام بذلك. لذا فإن التهديد بفرض عقوبات أميركية لا يزال يلوح في الأفق.
وهذا أيضا يصب في مصلحة إيران، حيث يمكن أن تستخدمه ورقة قوة في أي محادثات. كما رد المتحدث باسم وزارة الخارجية الإيرانية على تغريدة كروز: يدرك العالم في الحقيقة ما يعترف به كروز: أن الأنظمة في واشنطن متمردة. تقع على عاتق رئيس أمريكا مسؤولية إقناع المجتمع الدولي - بما في ذلك جميع أعضاء الاتفاق النووي- بأن توقيعه له معنى في الحقيقة. هذا الأمر يتطلب ضمانات موضوعية. لا أحد يقبل أي شيء أقل من هذا.
وهل واشنطن قادرة على تقديم ضمانات لإيران؟ قد يكون شراء الشركات الامريكية من طهران أول الغيث.
ضع في اعتبارك، حتى لو ان ايران ابدت حسن نية، وقامت بتقليص برنامجها النووي -وهي فعلت ذلك وتاريخها يشهد- لكن عندما يتعلق الأمر بالضمانات بأن الولايات المتحدة لن تتراجع، لا يمكن لوفد الولايات المتحدة إعطاء أي ضمانات.
كل هذا سيكون من الصعب التغلب عليه. قال الخبراء إن الولايات المتحدة وشركاءها الأوروبيين قد يضطرون إلى تقديم تخفيف سريع للعقوبات، ولكن عليهم أيضًا إيجاد آلية لطمأنة بقية العالم والمؤسسات المالية بأنه من المقبول حقًا التعامل مع إيران. قال أليكس فاتانكا إن "الرصاصة الفضية" ستكون الشراء الأمريكي، بما في ذلك من قبل الشركات الأمريكية، والتي ستكون إشارة مهمة عندما يتعلق الأمر بالجزء "العملي".
من ناحيته اشار باتمانجليج، من ECFR، الى أن "الحكومات الغربية حصلت على "مسار مكثف" من إخفاقات تنفيذ خطة العمل الشاملة المشتركة ومحاولات تخفيف العقوبات أحادية الجانب التي فرضها ترامب، وهذا قد يساعد المفاوضات، على عكس ما هو متوقع. (حاولت الدول الأوروبية إيجاد حل بديل لعقوبات ترامب، لكنها لم تفعل الكثير حقًا). يمكن للولايات المتحدة والدول الأخرى أن تكون مستعدة لمآزق لم تكن موجودة من قبل، وربما تبتكر طرقًا لمحاولة القيام بها. يبقى تخفيف العقوبات أكثر قوة وأكثر ديمومة".
ومع ذلك، لا توجد ضمانات لما قد يحدث في عام 2024. يعتقد بعض الخبراء أنه ربما قد يكون من مصلحة إيران أن تأخذ استراحة مؤقتة من العقوبات، ثم استغلال ذلك الوقت للاستعداد في حال انتهى المطاف بمشكك آخر في الصفقة الإيرانية في البيت الأبيض والعقوبات يعاد فرضها. غير ان إيران نفسها قد لا تراها على هذا النحو. قال أفشون أوستوفار، خبير إيران في كلية الدراسات العليا البحرية: "إيران في مقعد السائق. لا يبدو أن إيران مهتمة حقًا بالعودة إلى الصفقة، أو حتى تخفيف العقوبات. لقد وجدوا طريقة للالتفاف على العقوبات، على الأقل إلى الحد الذي يمكنهم من البقاء واقفين على اقدامهم وإدارة الأزمة التي فرضتها العقوبات على البلاد، وبذلك، لا يضطرون للتضحية أو التنازل بأي طريقة أخرى، استراتيجيًا أو عسكريًا أو من حيث السياسة الخارجية".
تدرك واشنطن جيدًا، أنه في الماضي ولغاية يومنا هذا، صمدت إيران في وجه حملة "الضغط الأقصى"، حتى لو ضاعفت واشنطن الألم الاقتصادي على طهران وشعبها. لذا هم يتوقعون أن تحاول ايران معرفة ما إذا كان بإمكانها المماطلة لفترة أطول قليلاً، مع الاستمرار في تعزيز مصالحها الإقليمية، والبرنامج النووي الذي لم يتخل الأوروبيون والولايات المتحدة بعد، عن رغبتهم حقًا في تقليصه.
وإذا كان هذا هو الحال، فقد لا تحقق محادثات تشرين الثاني، هذه، ما يسمى بـ "الامتثال المتبادل" لخطة العمل الشاملة المشتركة التي يقول الطرفان إنهم يريدانها.
إقرأ المزيد في: آراء وتحليلات
21/11/2024
خطاب الأمين: قوةٌ وتمكين ونصرٌ وتطمين
19/11/2024