معركة أولي البأس

آراء وتحليلات

المواجهة اللبنانية - السعودية: لا تلعبوا بالنار مع لبنان
06/11/2021

المواجهة اللبنانية - السعودية: لا تلعبوا بالنار مع لبنان

صوفيا ـ جورج حداد

بعد انتصار الثورة الفرنسية في 1789 بمبادئها القائمة على وضع "الحق فوق القوة"، ثم انحطاطها الى البونابرتية القائمة على وضع "القوة فوق الحق"، مرت مرحلة تاريخية طويلة، استمرت حتى الحرب العالمية الثانية، تمحور فيها تاريخ المجتمع البشري حول الصراع بين ذينك المفهومين الحقوقيين: "قوة الحق" و"حق القوة".

وفي اعقاب تراجيديا الحرب العالمية الثانية، أسست الولايات المتحدة الاميركية منظمة "هيئة الامم المتحدة"، بهدف واحد ووحيد هو: تطبيق "القانون الاميركي" او "شريعة الغاب الاميركية" على العالم، اي شريعة "حق القوة"، الذي تأسست عليه اميركا؛ وهو ما يعني، في الحساب الاخير: حق الولايات المتحدة الاميركية في الهيمنة على العالم، لانها اقوى واغنى دولة في العالم.

وبناء على هذا "المفهوم الحقوقي" الاميركي شنت اميركا وشاركت في الحروب ضد كوريا الشمالية وكوبا وفيتنام وافغانستان والعراق وغيرها من الحروب، وقتلت ملايين المدنيين، ودمرت الاوابد الحضارية التي هي ملك الانسانية جمعاء؛ واعطت لنفسها "الحق" في أن ترسل أساطيلها ألوف الكيلومترات بعيدًا عن حدودها الى الخليج الفارسي والبحر الأبيض المتوسط، وبحر الصين، والبحر الاسود، وغيرها من المحيطات والأصقاع، بحجة "حماية الامن القومي الاميركي"، في حين "لا يحق" لأي انسان في العالم حتى أن ينتقد على الفيسبوك قيام الشرطة الاميركية بقتل الزنوج "الاميركيين" دوسًا بالاقدام.

وبموجب هذا "المنطق الحقوقي" "يحق" لممثل الكيان الصهيوني في الامم المتحدة أن يمزق أمام أنظار العالم تقريرًا أمميًا يدين الممارسات الوحشية للكيان الاسرائيلي ضد الفلسطينيين؛ و"لا يحق" للفلسطينيين أن يؤدوا الصلاة  في المسجد الاقصى أو في كنيسة القيامة، إلا تحت فوهات البنادق الاسرائيلية وأشداق الكلاب اليهودية البوليسية وغير البوليسية.
 
***

وباعتبار أن لبنان هو "بلد الاشعاع والنور" (قبل ازمة الكهرباء الحالية)، وأحد "مؤسسي" هيئة الأمم المتحدة، كان لا بد من "لبننة" الالتزام بمفهوم "حق القوة"، الذي يعطي اميركا "الحق" في الهيمنة "بالقوة" على العالم، واعطاء طابع "فلسفي" و"حقوقي" لهذا "الالتزام اللبناني" بقانون "حق القوة" الاميركي.

ولهذه الغاية انبرى في حينه مؤسس حزب "الكتائب" بيار الجميل، لطرح الشعار "الفلسفي" القائل: ان "قوة" لبنان هي في "ضعفه"!
وهذا يعني أن لبنان يكون "قويا" و"سيدا" ــ داخليا، وعلى الساحات الدولية والاقليمية والعربية ــ بمقدار ما يكون "ضعيفًا" ومنبطحًا أمام أميركا و"اسرائيل" وايران الشاه والسعودية الخ.، وداعمًا لاستراتيجية الهيمنة الامبريالية الاميركية وحلفائها "الاقوياء"، ومعاديًا لأعدائها وأعدائهم.

وبناء على هذا المفهوم الانبطاحي والخياني لـ"الحق" و"السيادة الوطنية"، فإن الدولة اللبنانية قررت الوقوف "بقوة" ضد كل جهة تعارض اميركا صاحبة "حق القوة"، والى جانب كل من يقف في صفها؛ فتم التزوير الفضائحي للانتخابات النيابية في ايار/ مايو 1947، وصار اطلاق النار ضد المظاهرات العمالية والشعبية الوطنية ممارسة دائمة للسلطة اللبنانية، ومنعت جريدة "صوت الشعب" الشيوعية، وصدرت القوانين المعادية للشيوعية ولكل نضال شعبي ووطني بتهمة "النشاط الهدام"، وزج في السجون بالقوميين السوريين وغيرهم من الوطنيين، وجرت محاولة اغتيال القائد النهضوي انطون سعادة على ايدي جماعات حزب "الكتائب" المدعومين من السلطة، ثم لاحقًا تسليمه للسلطة اللبنانية، حيث جرت محاكمته الصورية واعدامه صبيحة 8 اذار/ مارس 1949 بعد 16 ساعة فقط من اعتقاله، وصوّت مجلس النواب اللبناني على قرار بتقديم 50 الف دولار لمساعدة اميركا في الحرب ضد الشعب الكوري. وبعد قيام "اسرائيل" وتشريد الفلسطينيين ولجوء مئات الالوف منهم من الجليل وشمال الارض الفلسطينية المحتلة، الى لبنان الشقيق القريب، عومل اللاجئون الفلسطينيون أسوأ مما عوملوا به في أي دولة عربية أخرى، وزرعت المخيمات الفلسطينية البائسة بمخافر رجال الدرك الذين كان يتم اختيارهم من أحط وأسفل العناصر من الطائفيين والعنصريين وعديمي الشرف والاخلاق، الذين سمح لهم باستباحة حرمات اللاجئين الفلسطينيين ليلا ونهارا، حتى في مخادعهم الزوجية، وتوقيفهم واهانتهم وتعذيبهم، دون اي قرارات قانونية، ودون أي حسيب أو رقيب؛ وهو ما تحدث عنه فيما بعد كمال جنبلاط الذي قال "لم نكن ندري ماذا يجري في المخيمات الفلسطينية التي تحولت الى معسكرات اعتقال مغلقة". وحينما أنشأ المناضلان الفلسطينيان جورج حبش ووديع حداد، اللذان كان يدرسان في لبنان، بواكير المنظمات الفدائية الفلسطينية، سمحت الدولة اللبنانية لأجهزة الأمن والمخابرات باعتقال "المشبوهين" الفلسطينيين وتعذيبهم حتى الموت، وحينما بدأت بواكير التحركات الوطنية، ولا سيما في المناطق الشعبية ذات الأغلبية الإسلامية، للتضامن مع الشعب الفلسطيني ضد اغتصاب فلسطين، رفع حزب "الكتائب" واضرابه شعارات "لا لعروبة لبنان" و"السيادة اللبنانية" و"الحياد" بين العرب و"اسرائيل"؛ ونزل المطران اغناطيوس مبارك الى الميدان يزعق ان "المسلمين ليسوا لبنانيين اصليين، بل هم طارئون جاؤوا من الصحراء، وعليهم العودة من حيث اتوا".

ولكن في الوقت نفسه الذي كان يمنع فيه اللاجئون الفلسطينيون من العمل بشكل مشروع، ومن امتلاك ولو غرفة واحدة للسكن، ويمنع ادخال مواد البناء الى المخيمات الفلسطينية، لان ذلك يتناقض مع "السيادة اللبنانية"، فتحت جميع الابواب على مصاريعها لامراء وشيوخ النفط الخليجيين، وبنيت لهم الفنادق والملاهي والمواخير، وسمح لهم بشراء افضل الاراضي اللبنانية، وبالسيطرة على القطاع المصرفي والدورة المالية ــ الاقتصادية اللبنانية؛ وكان الشيخ بيار الجميل يذهب شخصيا الى المطار لاستقبال "الاشقاء العرب" المعطرين بالنفط والبنزين، والموالين لاميركا "سيدة العالمين"!

***

والآن كيفما نظرنا الى المواجهة اللبنانية ــ السعودية الحالية، ومن أي زاوية نظر كانت، فهي لا تخرج عن كونها مثالًا نموذجيًا على تطبيق قانون "حق القوة" الاميركي، وفلسفة "السيادة" اللبنانية الخائنة والعميلة والانبطاحية أمام أميركا و"اسرائيل" والسعودية وزعانفها.
فأميركا "يحق لها" أن تحاصر ايران وسوريا ولبنان، وتجوّع شعوبها، ولكن المزارعين اللبنانيين "لا يحق" لهم بيع منتوجاتهم لسوريا حتى لا يخرقوا قانون "القيصر" الاميركي.

والسعودية "يحق لها" أن تستخدم الطائرات الحربية الأميركية من الجيل الخامس، وأحدث الصواريخ الاميركية، لقصف دور العبادة والمستشفيات والأعراس والمآتم، واغلاق مطار صنعاء وميناء الحديدة، لمنع الوقود والقمح وحليب الاطفال والادوية، وقتل عشرات ألوف الاطفال والنساء والمدنيين اليمنيين، بالقنابل الذكية والتجويع والامراض، ولكن المثقفين الانسانيين، والاعلاميين الشرفاء، اللبنانيين، ــ الاستاذ جورج قرداحي او غيره ــ "لا يحق" لهم ان ينبسوا بكلمة اعتراض على العدوان الفظيع ضد الشعب اليمني الشقيق المظلوم، لان ذلك يتناقض مع قانون "حق القوة" الاميركي، ومع فلسفة "السيادة اللبنانية" الانبطاحية للخونة وعملاء اميركا واسرائيل والسعودية.

ولكن حكام السعودية وزعانفهم الخليجيين، ومن فوقهم اميركا، ومن تحتهم الانبطاحيون "السياديون" الخونة، اللبنانيون، الذين يفتقدون تماما "قوة الحق"، يخطئون تماما ايضا في حسابات "حق القوة".

فقد مضى ثلاثة ارباع القرن على الحرب العالمية الثانية. والتاريخ العالمي لا يسير على التوقيت الاميركي، وحسابات "القوة" لم تعد في صالح اميركا و"اسرائيل" والسعودية وعملائهم في أي مكان.

والأمثلة على ذلك أكثر من أن تحصى. ويكفي أن نذكر منها أن السعودية حينما شنت عدوانها الغاشم على اليمن لم تكن تتصور ان تستمر الحرب الى الآن. أما الآن فقد أصبح واضحًا لأي محلل استراتيجي أو حتى أي مراقب عادي أن انتصار السعودية في حرب اليمن مستحيل، أما انتصار الشعب اليمني البطل فقد أصبح مسألة وقت لن يطول.

وفيما خص لبنان الصغير، علينا أن ننصح حكام السعودية وأسيادهم الأميركيين وغلمانهم اللبنانيين بالقول لهم: لا تغتروا بقوتكم، ولا تستخفوا بلبنان الوطني المقاوم؛ فـ"اسرائيل" سبق لها أن هزمت جميع الجيوش العربية، ولكنها هُزمت في لبنان. أي أن لبنان المقاوم، بمقاييس "الحق" كما بمقاييس "القوة" ذاتها، هو الدولة العربية الاولى التي انتصرت على "اسرائيل"، أي أنه اقوى دولة عربية، وخصوصًا أقوى من السعودية التي كان لابطال المقاومة الاسلامية الوطنية اللبنانية دورهم الفعال في سحق مشروعها الداعشي في سوريا. وقد هُزمت "اسرائيل" في لبنان، حتى قبل ان يكون لدى المقاومة عشرات الوف الصواريخ ومائة الف مقاتل كما قال سماحة السيد حسن نصر الله.

أما السعودية فإن لها "صفر قوة" في أي مواجهة مفترضة مع "اسرائيل"؛ وهي من ثم أضعف بكثير من أن تواجه المقاومة والجماهير الشعبية اللبنانية المناضلة التي انتصرت على "بعبع العرب" "اسرائيل". واذا ركب حكام السعودية رؤوسهم وتابعوا المواجهة ضد لبنان، فمن المؤكد ان العاقبة ستنقلب عليهم وبالا.
والعين بالعينين، والسن بالفكين.

إقرأ المزيد في: آراء وتحليلات