آراء وتحليلات
في رواندا "انسَ الخمر وتناول الحليب".. ولبنان يتصدّر ريادة مقاهي "الأراجيل"
د. علي دربج - باحث ومحاضر جامعي
ليس من قبيل المبالغة القول إن أغلبية بلدان العالم التي عانت من حروب داخلية، تعافت إلا لبنان. فهو ما إن يخرج من أزمة، حتى يدخل في أخرى، فيما اللبنانيون، وبعد مئة عام على قيام لبنان الكبير، وجدوا أنفسهم يعيشون في شبه دولة، تنعدم فيها أدنى مقومات الحياة، كالكهرباء مثلًا.
وحده هذا البلد الذي كلما تقدم الزمن فيه وتطورت الحياة البشرية، نراه يزداد تخلفًا وتأخرًا، بعكس أمم وشعوب ودول كثيرة، كرواندا، التي استعبدها الاستعمار لعقود، وعندما تحررت من نيره، وجد أهلها أنفسهم أمام حروب طاحنة تحولت معها لون مياه أنهارهم إلى أحمر -نتيجة سفك الدماء- في أفظع مجازر إبادة جماعية يشهدها التاريخ الحديث، غير أنها ما لبثت أن نفضت عنها غبار المعارك، ونهضت من جديد، لتلحق بالكبار، وتتحول الى نموذج ملهم لدولة أفريقية نجحت في تحقيق مجموعة من أسرع معدلات ومؤشرات التنمية في القارة الأفريقية، وزيادة فرص العمل، وتنويع الاقتصاد، وتعزيز مصادر الدخل الفردي والقومي الذي ارتفع ما يقارب 30 ضعفًا -بحسب الاحصاءات الرسمية- وأضحت واحدة من أهم وجهات المستثمرين والسياح بالعالم.
من يصدق أن تلك الدولة، التي ما إن يتناهى اسمها الى سمعك، حتى تأخذك ذاكرتك سريعًا الى مشاهد القتل -في عام 1994- والتي كانت مسرحًا للإبادة الجماعية، حيث قُتل ما يقدر بنحو 800 الف شخص في غضون 100 يوم، نتيجة حرب أهلية شرسة اشتعلت بين قبيلتي "الهوتو" و"التوتسي"، قد أصبحت خلال الـ 26 الماضية ـوخصوصًا آخر عشر سنوات،وهي فترة قياسية- الدولة الأكثر جاذبية وحفاوة في أفريقيا، الى حد يمكن وصفها بـ"المعجزة الحقيقية"؟
نعم، صدّق أن هذا البلد الافريقي لم يتوقف طموحه عند اعادة بناء الحجر والبشر فقط، بل كانت السماء جزءا من حلمه، وهكذا كان، فحقق انجازًا مشهودًا في العام 2019، عندما نجح بإطلاق أول قمر اصطناعي في إطار مشروع متكامل لربط المدارس والمناطق الحضرية بالإنترنت المجاني، والانتقال لشبكات الكوابل الضوئية بتكلفة تجاوزت ملياري دولار، فيما نحن في لبنان، يخرج طلابنا الى شرفات المنازل وباحات المباني بحثًا عن اشارة ارسال للإنترنت صادرة من أجهزة جيرانهم لمتابعة دروسهم المدرسية أو الجامعية، والأنكى أن بعض اللبنانيين يتعاطى -وللأسف- بدونية واستخفاف قل نظيره، مع أصحاب البشرة السوداء.
لكن كيف ولدت حانات الحليب في رواندا؟ وما قصة ارتباط هذا المنتج بالثقافة الوطنية؟ وما هو سرّ تعلّق سكانها بالحليب؟ لنكتشف اللغزّ، ونتعرّف معًا على الطقوس التي يمارسونها في هذه المكان.
اليوم، إضافة الى المكانة المميزة التي تحتلها العاصمة الرواندية كيغالي، بوصفها واحدة من أنظف المدن الأفريقية وأجملها، غير أن ثمة ظاهرة تنتشر فيها، تلفت نظرك -وان كنت بعيدا عنها- وتثير فضولك، بسبب فرادتها، ألا وهي حانات الحليب المفضلة في رواندا، حيث الشعار المتداول حاليا هناك "انسَ الخمر، الحليب هو ما يمكنك تناوله".
كان الحليب المشروب، الذي يبيعونه الروانديون منذ فترة طويلة، جزءًا لا يتجزأ من ثقافة البلاد وتاريخها، فضلًا عن هويتها واقتصادها الحديث. فعلى مر القرون، كانت الأبقار مصدرًا للثروة والمكانة، وهي أثمن هدية تمنح لصديق أو لعائلة جديدة.
حتى الملوك كانوا يتوقون للحصول على الحليب بسهولة. وإذا راجعنا تاريخ هذا البلد، نجد أنه في مملكة رواندا، التي استمرت لمئات السنين حتى خلع الملك الأخير في عام 1961، كان حليب الأبقار يُحفظ في زجاجات خشبية ذات أغطية مخروطية منسوجة خلف قصر الملك المسقوف بالقش.
علاوة على ذلك، للأبقار مكانة خاصة عند الروانديين، حيث لها قيمة كبيرة جدًا، إلى حد أنه انتهى بها المطاف في أسماء الأطفال، فنرى مثلًا اسم مونغانينكا، ويعني بقرة ثمينة، كبقرة أو Inyamibwa، اي بقرة جميلة، وكذلك تدخل في الرقصات التقليدية، حيث ترفع النساء أيديهن اثناء الرقص، لمحاكاة أبقار "أنكول" ذات القرون العملاقة.
ما يستحق التوقف عنده وطرح علامات استفهام كثيرة حوله، هو أنه أثناء فترة المجازر لوحظ ان غالبية القتلى ينتمون الى قبيلة التوتسي العرقية الذين كانوا يصنفون تاريخيًا من الرعاة وأثرياء الماشية. وتعقيبًا على ذلك قال الدكتور موريس موغابواغاندي ــ وهو باحث في التاريخ والأنثروبولوجيا في أكاديمية التراث الثقافي في رواندا ــ لنيويورك تايمز "استهدف المتطرفون من جماعة الهوتو العرقية، العائلات التي تربي الماشية وأبقارهم ومعظمهم من المزارعين (من قبيلة التوتسي)".
مع تعافي البلاد من الإبادة الجماعية، نظرت حكومة رواندا إلى الأبقار مرة أخرى كوسيلة لتوسيع الاقتصاد ومكافحة سوء التغذية. وهنا النقطة الأهم، إذ قدّم الرئيس الرواندي بول كاغامي "برنامج جيرينكا" للشعب في العام 2006، وهو يتضمن إعطاء كل أسرة فقيرة بقرة واحدة.
في اللغة المحلية يعني برنامج جيرينكا "قد يكون لديك بقرة"، وهو واحد من مشاريع التنمية التي حصلت على دعم كاغامي في جميع أنحاء البلاد. أما نتائجه، فكانت مشجعة الى حد كبير. وفقًا لوزارة الزراعة والثروة الحيوانية، وزع البرنامج حتى الآن أكثر من 380 ألف بقرة على مستوى البلاد. الجدير بالذكر أن جزءًا من هذا البرنامج كان عبارة عن مساهمات من الشركات الخاصة ووكالات الإغاثة والقادة الأجانب، بما في ذلك رئيس الوزراء الهندي ناريندرا مودي.
ومع زيادة إنتاج الحليب في هذه الدولة غير الساحلية، تضاعف أيضًا عدد الأشخاص الذين انتقلوا إلى المناطق الحضرية من أجل التعليم والعمل.
وانطلاقًا من ذلك، ولدت حانات الحليب، مما سمح للمزارعين ببيع فائض الحليب، من جهة، والسماح للزبائن بشرب كميات وفيرة منه لتذكيرهم بالوطن من جهة ثانية. أما معظم حانات الحليب فيقع في كيغالي، المدينة الأكثر اكتظاظًا بالسكان في البلاد، بحيث يبلغ عدد سكانها 1.2 مليون نسمة.
الآن لنعرف كيف يتفاعل الروانديون مع حانات الحليب، وما يعني لهم هذا المنتج.
في رواندا، يُعد الحليب مشروبًا محببا للسكان، وتعتبر حانات الحليب مكانًا مفضلاً للاستمتاع، حيث تمتزج ملذات المشروبات مع الأجواء الاجتماعية. المئات منها موجودة في كل مكان، في العاصمة كيغالي، وفي كافة أنحاء هذه الدولة الصغيرة التي يبلغ عدد سكانها 12 مليون نسمة.
من كل الأعمار والفئات، رجالًا ونساءً، صغارًا وكبارًا، الجميع يجلسون على المقاعد والكراسي البلاستيكية، والأكواب الزجاجية أمامهم، يحتسون ليترات تلو الليترات، من الحليب الطازج أو الحليب المخمر الشبيه بالزبادي، والمعروف محليًا باسم إيكيفوغوتو.
بعض الرعاة يشربونه ساخنًا، وآخرون يحبونه باردًا. البعض - احترامًا لعادات قديمة تتمثل في إنهاء كوبك مرةً واحدة - يشربونه بسرعة محدثين قرقعة، بينما يرتشفه الآخرون ببطء أثناء تناول الوجبات الخفيفة مثل الكعك والشاباتي، وهو نوع من أنواع الخبز الهندي الشعبي المشهور وخاصة في بنجاب ويقدم عادة مع اطباق الدجاج او الخضراوات والموز. مهما كانوا يأخذون كأسهم، يأتي الجميع للتواصل الاجتماعي والاسترخاء، لكنهم يشربون الحليب أولاً وقبل كل شيء، والكثير منه.
يقول جان بوسكو نشيموكيزا لـ"نيويورك تايمز"، وهو سائق أجرة دراجة نارية "آتي إلى هنا عندما أريد الاسترخاء، ولكن أيضًا عندما أريد التفكير في مستقبلي"، ويضيف أنه "يشرب ثلاثة لترات على الأقل من الحليب يوميًا". ويوضح انه "عندما تشرب الحليب يكون رأسك دائمًا مستقيمًا وأفكارك صحيحة"، ويتابع مبتسما "أنا أحب الحليب، فهو يجعلك تهدأ، ويقلل من التوتر. إنه يشفيك".
مواطن آخر، يدعى ستيفن موفونيي، نشأ مع تسعة أشقاء في منطقة روبافو في غرب البلاد. وبعد انتقاله إلى كيغالي للالتحاق بالجامعة، قال إنه "افتقد التواجد في الريف وحلب الأبقار وشرب الحليب دون حدود".
واضاف موفوني، ذات مساء في أواخر أيلول الماضي، وهو يشرب من كوب كبير من الحليب الساخن الطازج في وسط مدينة كيغالي "آتي إلى حانات الحليب وقد غلبني الحنين إلى طفولتي".
أثناء جلوسه في إحدى حانات الحليب، عرض موفوني البالغ من العمر 29 عامًا، والذي يعمل في قطاع التكنولوجيا الناشئ في رواندا، صورًا لابنه البالغ من العمر عامين وهو ينظر إليه بينما كان يشرب كوبًا من الحليب في مزرعة والديه". وأعرب عن قلقه من أن "الأطفال الذين ينشأون في المدن لن يكونوا مرتبطين بثقافة الألبان في البلاد، نظرًا لسهولة الوصول الآن إلى الحليب المبستر في محلات السوبر ماركت"، واستطرد قائلًا "أريد أن أعلّم أطفالي مبكرًا قيمة الحليب والأبقار".
وماذا عن تأثير كورونا على حانات الحليب؟
ككل بلدان العالم، كان من الطبيعي أن تتضرر هذه الصناعة، كونها جزءًا مهمًا من الاقتصاد الرواندي جراء ازمة كورونا. فعلى الرغم من جاذبيتها، واجهت حانات الحليب وقطاع الألبان بشكل عام تحديات متزايدة في السنوات الأخيرة، إذ أثّر وباء الفيروس التاجي Covid -19 بشدة عليها، خصوصًا وأن رواندا طبّقت واحدة من أكثر عمليات الإغلاق صرامة في إفريقيا.
عندما فرضت السلطات الرواندية حظر تجول ليلي، وأقفلت الأسواق وحظرت الحركة بين المدن والمناطق، تعرض الاقتصاد لضربة قاسية، وانزلقت رواندا نحو الركود. وفقًا للحكومة الرواندية، أغلق أكثر من نصف شركات الألبان الصغيرة والمتوسطة الحجم في البلاد. فضلًا عن ذلك كانت ثلاثة من أكبر خمسة مصانع للألبان في البلاد، تعمل بقدرة تتراوح ما بين 21 بالمائة و 46 بالمائة، من طاقتها.
القيود الصارمة، طالت بشكل خاص حانات الحليب الصغيرة المستقلة. في السنوات الأخيرة، تم إغلاق العديد من الحانات الصغيرة حيث عززت سلاسل الشركات قبضتها على السوق.
وما زاد الطين بُلة، أن تغير المناخ فاقم التحديات. ففي السنوات القليلة الماضي تركت موجات الجفاف المتكررة آلاف الأشخاص دون طعام، كما انعكست بدورها على الأبقار، التي لم تجد العلف والماء، وتسبب ذلك بنقص في الحليب في جميع أنحاء البلاد.
إضافة الى ذلك، أدت الظروف الجوية السيئة خلال الأشهر الأربعة الماضية، إلى ارتفاع أسعار الحليب. في المتوسط زاد لتر الحليب في المحلات التجارية في كيغالي من 500 فرنك رواندي (50 سنتًا)، إلى 700 فرنك (70 سنتًا).
كان مالكو حانات الحليب من أوائل الذين عانوا في أعمالهم من التداعيات السلبية لكورونا، فضلًا عن العوامل المناخية. تنقل "نيويورك تايمز" عن الوميني كاييتي المالكة لحانة حليب في حي نياميرامبو في كيغالي، قولها "بالنسبة لي، أثرت عمليات الإغلاق في العام الماضي، ليس على القدرة فقط على دفع الإيجار، ولكن أيضًا على دفع رواتب الموظفين والحفاظ على ارباحي بما يكفي لرعاية أسرتي". كذلك أدى نقص الحليب في الآونة الأخيرة، إلى عدم استطاعتها الحفاظ على برودة أواني الحليب الممتلئة في معظم الأيام.
ومع أن الأعمال التجارية قد انتعشت ببطء مع تلقي المزيد من الناس للتطعيم وإعادة فتح البلاد، تؤكد كاييتي انه "لا يزال الأمر غير سهل".
وبغض النظر عن الظروف، يقول الروانديون إن حانات الحليب موجودة لتبقى. خلال الوباء الذي شهدته رواندا لا سيما العام الماضي 2020، كشف طالب رواندي للصحافة الاجنبية، انه يقوم بتبادل الصور ومقاطع الفيديو على تويتر، لإظهار ارتباط رواندا بالأبقار والحليب، وللفت الانتباه الوطني.
تخرج كاريجيا من الجامعة هذا العام بدرجة في إدارة الأعمال، لكنه لا يزال يتذكر باعتزاز أيامه في رعاية الأبقار عندما كان صبيًا. قام بوضع تغريدة وهي صورة له في ثوب التخرج الخاص به، مذيلة بعبارة توضيحية مفادها "البقرة المعتمد يا فتى".
قال كاريجيا، الذي يمتلك خمس أبقار في التلال الخضراء لمنزل أسرته في غرب رواندا ويشرب ثلاثة لترات يوميًا: "الروانديون يحبون الأبقار ويحبون الحليب"، واضاف "حانات الحليب تجمعنا معًا.. وسنستمر في القدوم إلى حانات الحليب لشرب المزيد من الحليب".
في النهاية، الروانديون طووا صفحة سوداء من تاريخ بلدهم وتصالحوا فيما بينهم، والنتيجة كما رأيناها. أما في لبنان، وبعد أن قررت الدول الكبرى والاقليمية ــ ونيابة عن امراء الحرب ــ انهاءها، وبدل أن يضع حكامه المتعاقبون نصب أعينهم أولوية بناء القطاعات الانتاجية فيه كالصناعة والزراعة، عمدوا الى تدميرها بالكامل، وتواطؤوا على شعبه مع المصارف، عبر اغرائه بالفوائد العالية، فتحول الاقتصاد الى الاستهلاك، واستعاض أصحاب الرساميل عن المشاريع الانتاجية، بانتظار الربح الشهري الذي تدره عليهم البنوك.
وإذا كانت رواندا تشتهر الآن بحانات الحليب، كرمز للإنتاج الوطني، بالمقابل فإن لبنان أصبح رائدًا وفريدًا في محيطه إن لم يكن العالم، بتفريخ ظاهرة المقاهي واكشاك الأراجيل، التي تنبت كالفطر في الاحياء والزواريب، وبين المنازل، وعلى الطرقات العامة والارصفة والمكاتب -نحمد الله اننا لم نرها داخل صفوف الدراسة بعد- والشواطئ والجبال وضفاف الانهار، والمرافق السياحية. والنتيجة ولادة جيوش من الخاملين والعاطلين عن العمل. فعلا انه الابداع اللبناني.
إقرأ المزيد في: آراء وتحليلات
21/11/2024
خطاب الأمين: قوةٌ وتمكين ونصرٌ وتطمين
19/11/2024