آراء وتحليلات
الإزدواجية الأميركية في قضية اللاجئين: المسموح لواشنطن ممنوعٌ لبيروت
د. علي دربج - باحث ومحاضر جامعي
غريب ذلك السحر الأميركي الذي امتدّ مفعوله ليشمل عدد كبير من الدول والشعوب، والمنظمات الاقليمية والمحلية، والمجتمعات المدنية، بحيث يجعل جميع أفعال وارتكابات واشنطن، مهما كبرت أو صغرت، مبرّرة، وتقابل بالصمت والسكوت والتجاهل، والأنكى أن هناك من يتبرع للدفاع عنها، وأحيانًا أكثر من الأميركيين أنفسهم.
مفهوم أن ينحاز أشخاص وكيانات الى أميركا، لكن أن تقدم كأنموذج فريد يُتحذى به في احترام البشر وقيمه الانسانية، فهذا يتنافى مع الواقع والحقيقة. وتصبح المسألة عصية عن الفهم أكثر، مع وجود تلك الاستنسابية والانتقائية لدى أصدقاء الولايات المتحدة وحلفائها ورجالاتها، وتصويرها من قبلهم، وكأنها المدينة الفاضلة التي تخلو من العيوب والأخطاء، دون التطرق حتى لو بكلمة أو منشور، إلى الجرائم أو الفضائح أو الفظائع التي ارتكبتها واشنطن وما زالت، بحق الانسان وبشكل خاص المهاجرين إليها أو اللاجئين فيها. وإليكم الأخلاق الأميركية التي يتُغنى بها.
القضية: طرد مهاجرين أو لاجئين (سمهم ما شئت). الزمان أواخر العام الماضي والحالي. المكان: الحدود الجنوبية للولايات المتحدة الأميركية. فلنتعرف سويا على التفاصيل.
خلال الأشهر الـ 12 الماضية، سجلتّ الولايات المتحدة رقمًا قياسيًا بعدد المهاجرين الذي حاولوا دخول الى أراضيها بشكل غير قانوني، وقد بلغوا حوالي 1.7 مليون مهاجر من جميع أنحاء العالم (وفقًا لصحيفة نيويورك تايمز هذا الشهر)، كثير منهم فروا من البلدان التي دمرتها الأوبئة(Covid-19)، متوجين بذلك عامًا من الفوضى على حدودها الجنوبية، والتي برزت كواحدة من أكبر التحديات التي واجهت إدارة الرئيس الأميركي جو بايدن حتى يومنا هذا.
وفقًا للإحصاءات الأميركية، كان هذا أكبر عدد من العبور غير القانوني، تم تسجيله منذ عام 1960 على الأقل، منذ أن بدأت الحكومة الأميركية في تتبع الهجرة غير الشرعية اليها. وقد جاء هؤلاء المهاجرون عابرو الحدود من بلدن مختلفة، بهدف البحث عن فرص اقتصادية جديدة، بعدما تسبب وباء فيروس كورونا في فقدان مئات الملايين من الناس وظائفهم. وقد اعترض مسؤولو الحدود الأمريكيين، أشخاصًا من أكثر من 160 دولة تشمل آسيا وإفريقيا وأمريكا اللاتينية، أما الحصة الأكبر فكانت للمكسيك.
كان البالغون العازبون منهم (أي غير المتزوجين)، يمثلون أكبر مجموعة من المحتجزين في السنة المالية الأميركية المنتهية في 30 ايلول الماضي، حيث قُدّر عددهم بحوالي 1.1 مليون شخص، أو 64 بالمائة، من جميع العابرين. إضافة الى ذلك هناك أيضًا أعداد كبيرة من العائلات المهاجرة - أكثر من 479000، وهو رقم، يقل بنحو 48000 عن الزيادة الأخيرة في عمليات العبور العائلية نحو أميركا، التي وقعت في العام 2019.
المحزن، أنه يوجد (ضمن هذا العدد اعلاه) ما يقرب من 147,000 طفل ليس لديهم آباء أو أوصياء، وقد عُدّ ذلك، أكبر رقم واجهه عملاء الحدود(اي حرس الحدود) منذ عام 2008، عندما بدأت الحكومة في إحصاء القاصرين غير المصحوبين بذويهم.
ما يدمي القلب، هو قضية، صعوبة العثور على مأوى للأطفال المهاجرين الذين ينتظرون إطلاق سراحهم الى الأقارب أو الكفلاء الآخرون في الولايات المتحدة. وحتى 22 تشرين الاول الجاري، كان هناك حوالي 11 ألفًا لا يزالون رهن الاحتجاز لدى الحكومة الأميركية.
الآن لنرى كيفية تعاطي ادارة الرئيس بايدن مع هذه المشكلة.
مع أن بايدن انتقد قبل توليه الرئاسة، سياسة سلفه الرئيس دونالد ترامب تجاه اللاجئين التي اتسمت (بالوحشية كفصل الأطفال عن أهاليهم)، غير أن قاعدة الصحة العامة، التي استند إليها ترامب في بداية الوباء في عام 2020 لإغلاق الحدود، بقيت سارية في ظل إدارة بايدن الذي استحسنتها وهي تعرف (اي القاعدة) باسم العنوان 42 (وهو أمر صحي عام جازم، صدر في عهد ترامب يسمح بالطرد التعسفي السريع العاجل للمهاجرين وطالبي اللجوء دون جلسة استماع بشأن الهجرة). مؤخرًا جرى استخدام هذا العنوان لطرد أكثر من 7000 هايتي في غضون أسبوعين فقط.
الملفت، أن بايدن إضافة الى سيره على نهج ترامب (القائم على طرد اللاجئين)، أيدّ بدوره، خيار تعيين رئيس شرطة توكسون، كريس ماغنوس (كمرشح له) لقيادة الجمارك وحماية الحدود الأمريكية، وهي أكبر وكالة لإنفاذ القانون في البلاد، حيث كانت لجنة في مجلس الشيوخ، عقدت جلسة استماع الماضي 19 تشرين الاول الجاري لهذه الغاية. وخلال مثوله أمام اللجنة المالية بمجلس الشيوخ، أشاد ماغنوس بفائدة الباب 42، وقال إنه سيدعم بعض توسيع الجدار عند الحدود الجنوبية، وهو ما يشير الى أن ماغنوس يتبنى ذات وجهة ترامب أيضًا.
لكن ماذا حلّ باللاجئين نتيجة هذه السياسية؟ لنكتشف الجواب.
ما يهمنا من كل ما تقدم هو التالي. منذ أواخر العام الفائت ويومنا هذا، نفّذ حرس الحدود الأمريكيون أكثر من مليون عملية طرد للمهاجرين إلى المكسيك أو إلى بلدانهم الأصلية. حيث استخدم المسؤولون قاعدة الصحة العامة لطرد المهاجرين. والكلام لنيويورك تايمز.
الجمهوريون ألقوا باللوم على بايدن الذي تسبب بنظرهم بتأجيج طفرة الهجرة، حيث انتشر خبر أن حدود البلاد أصبح اختراقها أسهل. وبناء على ذلك دعا السناتور توم كوتون، جمهوري من آرك، إدارة بايدن إلى إعلان حالة طوارئ وطنية على الحدود الجنوبية.
والآن لننتقل الى لبنان ونجري مقارنة، بين عمليات الطرد الأميركية للمهاجرين واللاجئين، وبين القيود الدولية المفروضة على بيروت، والتي تمنع ساسة هذا البلد التدخل في هذا الملف (وهي سابقة عجائبية لم يشهد العالم مثيلها من قبل)، على الرغم من كونه أمرًا بديهيًا يتعلق بسيادة الدولة أولًا وأخيرًا.
لا جدال في شرعية الاجراءات التي تتخذها كل دولة فيما يتعلق بالمهاجرين أو اللاجئين فيها، وخصوصًا إذا كانت تتطابق مع قوانينها المحلية وحتى الدولية، وذلك انطلاقًا من المحافظة على مصالحها القومية، وهذا حق مكتسب لها، وخارج أي نقاش.
وبعد أن رأينا التعاطي الأميركي مع اللاجئين، ومع ادراكنا لحساسية موضوع اللاجئين السوريين في لبنان (وتضامننا الانساني والاخلاقي مع معاناتهم ومأساتهم)، لكن هل سأل أو سيسأل أحد ما (علنا او في بيان او تصريح)، من قادة هذا البلد الرسميين، كيف لأمريكا وحلفائها (الغربيين والعرب) اشهار الفيتو بوجه للبنان، وحرمانه من المساعدة الدولية كي لا يبقى العبء على لبنان وحده ــ وهو فاق قدرات لبنان. والأخطر كفّ يده أقله عن تنظيم وجودهم بما لا يتعارض مع مصلحة لبنان وشعبه، لا سيما وأن هذا الملف أضحى سياسيًا بامتياز، ويستخدم كورقة ضغط على النظام في دمشق.
والأدهى، أن إثارة هذا الموضوع من قبل أي فريق لبناني، لطالما عُدت من المحرمات لدى أفرقاء لبنانيين. فبمجرد الاشارة اليه لو بالكلام، وان كان من باب ضبط الأمور كما تفعل بقية الدول، تسارع البعض الجهات اللبنانية المنتفعة (من منظمات المجتمع المدني وبعض الجمعيات "الخيرية"، فضلا عن السياسيين من ادعياء السيادة الجدد) الى رفع الصوت عاليًا، والتهويل على الدولة، واطلاق ادعاءات واهية كـ"تعرضهم للخطر والاعتقال من قبل النظام في دمشق ــــ حتى لو كانت صحيحة (هذه الافتراضات)، يمكن الحصول، على ضمانات من الامم المتحدة والدولة السورية لتأكيد سلامتهم ــ وجلّهم (اي اصحاب هذه الغيرة المصطنعة) من المستفيدين من الاموال الاجنبية التي تتدفق على هذا البلد لمساعدة اللاجئين الذين يحصلون على الفتات، فيما الباقي، يختفي بمعظمهما، ولا يعرف أحد كيف أو أين ذهبت هذه الأموال؟
وبعبارة أوضح، فلنعكس المشهد، ونسأل، ماذا لو كان لبنان مثلًا هو الذي أعاد ليس مليون لاجئ كما فعلت أميركا، بل بضعة آلاف، بعد أن قام بتسوية أوضاعهم مع الدولة السورية (وهذا طبعًا من المستحيلات حاليًا)، فلنتخيل عندها ماذا سيحدث.
حينها، لن يبقى أحد في العالم، بدءًا من أميركا مرورًا بأوروبا ومجلس الأمن والجمعية العامة ومجلس حقوق الإنسان ومشيخات الخليج، وصولًا الى المنظمات الدولية والاقليمية والعربية، وانتهاء بقسم لا بأس به من اللبنانيين، إلا ويبدأون بالتباكي على اللاجئين وذرف دموع التماسيح عليهم (مع العلم أن لهم اليد الطولى في تهجريهم وتدمير بلدهم سوريا)، ويهددون لبنان بالويل والثبور وبعظائم الأمور، وقد يتطور الأمر إلى وضعه تحت الفصل السابع.
المفارقة غالبية هؤلاء بلعوا ألسنتهم، وتحولوا الى بُكم وصمّوا آذانهم، وأغمضوا أعينهم، عن طرد واشنطن أكثر من مليون لاجئ. حتى أننا لم نسمع منهم، موقفًا واحدًا يدين هذا الفعل (خصوصًا مفوضية اللاجئين التابعة للأمم المتحدة التي تحولت إلى الآمر والناهي بملف اللاجئين السوريين في لبنان) أسوة بتدخلاتهم (الفظة والغليظة) والتي تقف حائلًا أمام أي حل لملف اللاجئين في لبنان، زد على ذلك أنهم لا يتوقفون، عن ممارسة الضغوط على الحكومة اللبنانية لعدم التفاهم مع الدولة السورية في قضية اللاجئين لما فيه خير البلدين.
ختامًا، انه عالم ازدواجية المعايير، الذي تتزعمه الولايات المتحدة. فهل يجرؤ مدّعو السيادة على مفاتحة عوكر، ودعوتها مثلًا، الى الرحمة والرأفة باطفال اللاجئين على حدودها؟ فلنحلم معا.
إقرأ المزيد في: آراء وتحليلات
21/11/2024
خطاب الأمين: قوةٌ وتمكين ونصرٌ وتطمين
19/11/2024