آراء وتحليلات
أوروبا والتطرف الشعبوي إلى أين؟
سركيس أبوزيد
وقعت المستشارة الألمانية أنجيلا ميركل والرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون مؤخراً معاھدة جديدة ألمانية ـ فرنسية ترسّخ الصداقة والتعاون والاندماج بين البلدين، وتحاول إظھار أن المحور الرئيسي في الاتحاد الأوروبي لا يزال قويا في مواجھة نزعات قومية مشككة.
بناء على ذلك، أكد ماكرون وميركل مجددا رغبتھما في العمل لتشكيل "جيش أوروبي"، إذ اعتبرت المستشارة الألمانية أن المعاھدة الجديدة ھي مساھمة في تأسيس جيش أوروبي، مشيرة إلى تطوير ثقافة عسكرية وصناعة أسلحة مشتركتين. ونبّھت الى أن "الشعوبية والقومية تزداد قوة في بلادنا".
ولكن، إظھار قوة وتماسك أوروبا يحصل على أيدي زعيمين يعيشان أوقات ضعف وضيق ووھن. والحال أن الطرفين اليوم مصابان بالوھن: ماكرون بسبب تراجع شعبيته والحركة الاحتجاجية في الشارع المتمثلة بالسترات الصفراء، والمتاعب الداخلية وتأخر بروز نتائج إصلاحاته الاقتصادية والاجتماعية، وميركل بسبب تراجع شعبيتھا وھزائمھا الانتخابية وتخليھا عن قيادة حزبھا، وتراخي قبضتھا أيضا على الحكومة. حقيقة الأمر أن ما يصيب ميركل يصيب في الوقت نفسه ماكرون، ذلك أن الثنائي الفرنسي - الألماني كان من الأساس ركيزة البناء الأوروبي.
بداية نھاية ميركل لاحت منذ عامين وأولى الإشارات ظھرت خلال انتخابات عام 2017، عندما حصل تحالفھا (يمين وسط) على 32.9 % من الأصوات فقط، بالتوازي مع دخول حزب "البديل لألمانيا" اليميني المتطرف إلى البرلمان لأول مرة عام 2017 ، بعد الحصول على 13 في المئة من الأصوات تقريبا، بعد ذلك قرر حزب "البديل لألمانيا"، المعارض الرئيسي في البرلمان منذ نھاية 2017 إطلاق حملة حول مسألة حساسة ھي الخروج من الاتحاد الأوروبي، ملامسا بذلك أحد المحرّمات في البلاد، ومتعھدا أن "ديكسيت" أي النسخة الألمانية من "بريكست" البريطاني، ستطرح كملاذ أخير ما لم تجرِ إصلاحات شاملة في الاتحاد الأوروبي في غضون فترة زمنية معقولة. ويدخل إلغاء البرلمان الأوروبي وعملة اليورو ووضع حد "لأسلمة أوروبا" في مقترحات إصلاح الاتحاد الأوروبي التي يطرحھا الحزب.
ومؤخراً أجرت مؤسسة "يوجوف" البريطانية استطلاعا للرأي، نشرته صحيفة "الديلي ميل"، وفيه إشارات تؤكد تصاعد موجة الإسلاموفوبيا في أوروبا وأميركا بشكل غير مسبوق.
ومع النتائج المخيبة للآمال في الانتخابات النيابية الأخيرة، والضغوط الداخلية، واتساع المعارضة السياسية لشخصية ميركل داخل حزبي المسيحي الديمقراطي والاشتراكي الديمقراطي، اضطرت ميركل الى اتخاذ القرار الصعب بتنحيھا عن زعامة الحزب، لكنھا بقيت متمسكة بمنصبھا بقيادة الحكومة حتى نھاية ولايتھا الدستورية الرابعة عام 2021 ، مبررة قرارھا بأنه الأفضل للبلاد لأنه سيتيح لھا قيادة الحكومة من دون الانشغال بمشكلات الحزب.
قد يكون من الصعب تخيل ألمانيا الحديثة من دون المستشارة الألمانية أنجيلا ميركل لنجاحھا في جعل ألمانيا الأقوى اقتصاديا في أوروبا، وتمكنها من إنقاذ اليورو، مع تفاقم الأزمة الاقتصادية في اليونان وإيطاليا والبرتغال وغيرھا. فرضت ميركل رؤيتھا الخاصة على الواقع الأوروبي، لتصبح برلين الوجه الثاني لبروكسل، مركز صناعة القرار الأوروبي، وكانت صاحبة الكلمة الأخيرة في حل العديد من أزمات الاتحاد، وسعت لجعل برلين رمزا لما يسمى "العالم الحر"، من حيث التوجھات السياسية المنفتحة والمناصرة لحقوق الإنسان. وفي 31 آب 2015 ، اتخذت خطوة شجاعة وغير مسبوقة، بإعلانھا فتح أبواب وحدود بلادھا لاستقبال اللاجئين من الشرق الأوسط الذين وصلت أعدادھم لمستويات غير مسبوقة في العالم (حوالي مليون لاجئ خلال عامين)، وحصل نصفھم على ترخيص للبقاء في البلاد.
كما نسجت علاقة فريدة مع الرئيس الروسي فلاديمير بوتين، على الرغم من الخلافات في التوجه السياسي. وبنت علاقة وثيقة مع الرئيس الأميركي السابق باراك أوباما. ولكن كل ذلك تغير عند وصول الرئيس الأميركي الحالي دونالد ترامب إلى البيت الأبيض، وظھرت الخلافات العلنية بينھما، خاصة فيما يخص التجارة الحرة. فتوجُّه ترامب والزعماء الشعبويين ضد العولمة والانفتاح الاقتصادي، يتناقض مع معتقدات ميركل التي تؤمن بأن السبيل الأفضل للنمو والتقدم يأتي عن طريق الانفتاح وبناء الجسور التجارية والسياسية. ومنذ ذلك الوقت تولدت نزعة يمينية متطرفة مؤثرة ضد سياسة ميركل، إلا أن ھذه الأحزاب اليمينية لم تنجح في تغيير خريطة السياسة الألمانية إلا بحلول عام 2013 عندما تم تأسيس حزب "البديل لألمانيا". واثر تراجع قوي لشعبيتھا بعد أعوام من النجاح والشعبية التي جعلتھا القائدة السياسية الأوروبية أعلنت ميركل أنھا لن تخوض الانتخابات المقبلة.
في الواقع، قرار المستشارة صفعة للسياسة الألمانية، ليس لأنه لم يكن في الحسبان، بل لأن مصير ألمانيا شبه مجھول، فھي للمرة الأولى لم تعد واحة الاستقرار السياسي في أوروبا، فقرار ميركل مربك للأحزاب الألمانية التي ستخلو لھا الساحة السياسية الآن لملء الفراغ الذي ستتركه "عرّابة أوروبا"، والصراع على السلطة لتحديد خلفھا في رئاسة الحزب ورئاسة الحكومة ربما ستشوبه الفوضى، ما يؤدي الى حالة انعدام استقرار في أكبر اقتصاد في أوروبا. كما أن القرار مربك لمؤسسات أوروبا، لتصبح الساحة الأوروبية مفتوحة على احتمالات سياسية عديدة وفراغ في قيادة القرار الأوروبي السياسي كما الاقتصادي. فإضعاف ميركل التدريجي يعقد الأمور أمام الأوروبيين الذين ينتظرون انتخابات أوروبية في العام 2019.
من الواضح أن خروج ميركل من الساحة السياسية يحصل في موازاة صعود اليمين في دول أوروبية مھمة، مثل النمسا وإيطاليا، بينما مستقبل العلاقة مع بريطانيا مجھول مع اقتراب خروج لندن من الاتحاد الأوروبي من دون خريطة طريق واضحة. والتحولات الأوروبية تأتي في وقت تتخبط فيه الولايات المتحدة مع إدارة الرئيس ترامب المثيرة للجدل. وكل ذلك ينذر يتغيير وجه القارة العجوز الليبرالي، فأي وجه لأوروبا سيكون مع تزايد صعود اليمين المتطرف فيها؟
إقرأ المزيد في: آراء وتحليلات
29/11/2024