معركة أولي البأس

آراء وتحليلات

قوافل المازوت: هزة تحرّك صفائح خاملة
21/09/2021

قوافل المازوت: هزة تحرّك صفائح خاملة

علي عبادي

أحدث وصول حمولة باخرة المازوت الايراني الى لبنان هزة سياسية وإعلامية تتردد أصداؤها في جميع المحافل والمناطق، ليس لأنه للمرة الأولى تُقْدم جهة من خارج النادي النفطي على القيام بمهمة من هذا النوع فحسب، وليس لأنه يمثل تحدياً للتهديد الأميركي بفرض عقوبات كذلك، بل لأنه يمثل أيضاً خرقاً لكل الجهود التي بُذلت على مدى سنوات طويلة لحصر المقاومة في بيئة معينة وجغرافيا معينة. هذه الشحنة يتم توزيعها على جميع الطوائف والمناطق، كما وعد الأمين العام لحزب الله، وبالتالي ثمة من يريد أن يتدارك ما يراه خسارة في وضعيته الشعبية عن طريق وضع سدود إعلامية لوقف مفعول هذه المساهمة وتأثيرها على الصور الذهنية التي شكّلها هؤلاء في وعي الناس عن حزب الله بوصفه فاعلاً ومؤثراً في الواقع اللبناني.   

ويمكن القول إن ردود الفعل على وصول المازوت إندرجت ضمن الفئات التالية:

ـ فئة أنكرت علاقتها بوصول المازوت الى لبنان، لأنه تم "من دون تنسيق" مع أجهزة الدولة اللبنانية. وهذا رد فعل مسؤولين في الحكومة على رأسهم رئيسها نجيب ميقاتي عبّر عنه في حديث لشبكة "سي ان ان" الاميركية. وكان الغرض الأساسي من هذا الإنكار التخلص من الملاحقة الأميركية لأي نوع من التعاون مع ايران أو تسهيل لحركة حزب الله مع المؤسسات الرسمية، من دون الذهاب الى إبداء استنكار لهذه الخطوة. والحق يقال ان الحزب عبّر علناً عن رغبته في رسوّ الباخرة في ميناء بيروت لتوفير مادة حيوية تَلزم كل المؤسسات الخدمية من دون استثناء قبل وقوع المحظور الذي ينذر به الجميع. ويوفر وصول الباخرة الى الشواطئ اللبنانية الكثير من الوقت والجهد والمال لتوزيعها سريعاً على المناطق اللبنانية. غير أن تخوف المسؤولين في الدولة من أي ملاحقة اميركية دفع الحزب لاستحضار المازوت عبر ميناء بانياس ومنه براً عبر نقاط حدودية غير رسمية لرفع الإحراج، ليخرج الطرفان المعنيان بصيغة رابح- رابح من هذه "الإشكالية".

ـ فئة أخرى اتخذت وضعية قتالية حيال وصول صهاريج المازوت، وهي تعتقد أن الإثارة الإعلامية قد تكون كافية لتحريك الجو السياسي ضد خطوة الحزب ومحاصرتها، علماً أن المازوت ليس موجَّهاً لجمهور الحزب خاصة، بل يوفر خدمة باتت الدولة عاجزة عن توفيرها في ضوء نقص مخزون المازوت أو احتكاره أو بسبب رفع الدعم عنه.

ـ فئة ثالثة أبدت تفهماً لهذه الخطوة النوعية، لكنها لم تعلق لا سلباً ولا إيجاباً لأسباب خاصة تتعلق بظروفها أو تموضعاتها السياسية.

ـ فئة رابعة تعاملت مع هذه الخدمة بانفتاح وتعاون برغم اختلافات سياسية أو غيرها قد تحكم علاقتها مع حزب الله، ونظرت الى الموضوع كضرورة لا يوجد بديل عنها في الوقت الحالي.

الإعتراض في الجوهر
 

قوافل المازوت: هزة تحرّك صفائح خاملة

الفئة التي ذهبت بعيداً في معارضة وصول المازوت الإيراني الى لبنان، علّقت أهمية على الشكل، وهو وصولها من طريق معابر غير رسمية مع سوريا، فيما الحقيقة ان رموز هذه الفئة يرفضون في الجوهر أي تعاون أو مساعدة من ايران انسجاماً مع التوجهات الأميركية، حتى وإن كان ذلك على حساب مصالح ومزاج قواعدهم الشعبية، ومن دون النظر الى عدم وجود بديل. وهذه المقاربة اعتورتها مشكلتان كان يمكن تجاوزهما بحد أدنى من الحساسية السياسية طالما ان الحزب لا يبحث عن ثمن مادي او سياسي واضح:  

المشكلة الاولى: تم الاعتراض من منطلق التسليم بوجود عقوبات اميركية، وبعضهم "شَطَح" فقال: عقوبات دولية، على وصول النفط الايراني الى لبنان. والحال انه لا توجد عقوبات من مجلس الامن الدولي بهذا الصدد. أما التهديد الاميركي بفرض عقوبات فهو تهديد نظري لن يطال في الحقيقة إلا حزب الله الذي وقعت عليه العقوبات سابقاً، وهو يتصرف على اساس انه "غريق لا يخاف مزيداً من البلل"،  وبالتالي فإن المتخوفين المبالغين في الإعتراض لديهم هواجس أخرى مكنونة. ولو كان لديهم اهتمام بمصالح الناس الذين يغرقون في سلسلة مشاكل لها علاقة بعدم توفر المحروقات، لكان عليهم ان يقدموا اعتبار المصلحة اللبنانية على المصلحة الاميركية. وبكل بساطة، كان بإمكانهم التخلص من الملاحقة الاميركية بإنكار علاقتهم بالشحنة النفطية الايرانية، وكفاهم الله شر القتال.

المشكلة الثانية: تم الإدعاء بأن ما جرى خرق فاضح للسيادة، بل وذهب البطريرك الماروني الى تصوير الأمر على انه "دوس" على "هيبة الدولة" و"إلغاء لوجودها"، محرّضاً "السلطة السياسية والسياسيين" على الخروج من حالة "الصمت المدقع" حيال هذا التطور. وقد أشرنا سابقاً الى ان الدولة هي من رفض وصول الشحنة عبر معابر رسمية بحرية أو برية، وهي من قصّر ويقصّر كل يوم في رفع مذلة الإنتظار عن أعناق الناس. مع ذلك، فإن السؤال الذي يُطرح: ما البديل لديكم؟ هل ستستدرجون نفطاً من دول أخرى بما يوفر العناء على مواطنيكم؟ هل يكون رفع الدعم الحكومي عن المحروقات -كما تقولون هو الحل- أم هو بداية لمأزق معيشي نعرف أين يبدأ ولا نعرف أين ينتهي، لاسيما في ضوء أزمة السيولة لدى المصرف المركزي؟

كسر الحواجز

المعترضون على المازوت الايراني كان يمكنهم تفهم وتغليب الإعتبارات الانسانية على أي اعتبار سياسي، في ضوء الاحتياجات الشديدة لقطاعات مختلفة الى هذه المادة الحيوية. وقد لاحظنا ان الطلب على هذه المادة تجاوز الخطوط السياسية والطائفية، ولم يعد الكثير من المؤسسات يحفل بكونه ايرانياً أو من محور المقاومة، فنداء الحاجة الإنسانية كسر كل حواجز الاختلاف. ولاحظنا أيضاً أن صهاريج المازوت لم تواجه أي مشكلة أثناء تنقلها بين المناطق برغم كل الحساسيات التي تطبع الوضع اللبناني، وأيضاً ـ وهذه ملاحظة إضافية ـ برغم اننا شهدنا في الشهور الأخيرة ظاهرة مقلقة تمثلت بقيام مجموعات من الشبان الغاضبين بالسيطرة عنوة على صهاريج بنزين او مازوت متوجهة الى بلدة هنا او منطقة هناك. وتقديرنا أن التطمينات التي قدّمها الأمين العام بإيصال المازوت الى كل المناطق من دون تفرقة بين اللبنانيين وتلبية الطلباتـ وفق الإمكانات المتاحة ـ أسهمت في إضفاء جو من الارتياح لم يكن متوفراً قبل ذلك.

يمكن للبنانيين أن يختلفوا على كل شيء، لكنهم لن يختلفوا قطعاً على أن المساعدات الانسانية هي شيء ايجابي من أي جهة أتى ومن أي طريق، باستثناء طريق العدو الاسرائيلي. واذا حصل تقارب في هذه النقطة، يمكن جرُّ الأميركي الى ملعب مصلحتنا الوطنية وإفهامه أن اللبنانيين يقدمون هذه المصلحة على ما عداها من مصالح واعتبارات أميركية. وساعتئذ، ستتغير المعادلة، كما بدأت ملامحها تتغير بمجرد أن اتخذ حزب الله قراراً باستيراد المحروقات من ايران.

رسالة المازوت الايراني الذي وصل متجاوزاً العوائق والتهديدات، أسهمت وستسهم لاحقاً في إجبار الادارة الاميركية على مراجعة حساباتها في ما يتعلق بالساحة اللبنانية واحترام مصالح الشعب اللبناني، كما أسهمت في تنشيط صفائح كان يُتصور أنها خاملة. وفي حال أوغل المعترضون في خطابهم استناداً الى اعتبارات سياسية او سيادية مزعومة، سيكتشفون أنهم منفصلون عن الواقع المؤلم المرير وأن قواعدهم الشعبية تهتز من تحتهم.

المازوت

إقرأ المزيد في: آراء وتحليلات