آراء وتحليلات
موجة الهجرة الجديدة من لبنان.. أرقام صادمة ونتائج موجعة
د. محمود جباعي
تعتبر الهجرة تاريخيًا من أبرز سمات الشعب اللبناني حتى قبل تأسيس دولة لبنان الكبير، حيث ينتشر المغتربون اللبنانيون في شتى أصقاع المعمورة ويتوزعون في مختلف قارات ودول العالم. ولطالما شكل هؤلاء قوة داعمة للبنان على مختلف الأصعدة وخاصة في مجال الاقتصاد والثقافة وكذلك السياسة ووقفوا الى جانب وطنهم في كل الاستحقاقات التي شهدها منذ تأسيسه الى اليوم. ولعل أبرز أوجه الدعم الحالية هي رساميل وتحويلات المغتربين الى ذويهم بشكل شهري ومنتظم التي تعتبر من أهم مقومات صمود أكثر من 200 الف عائلة مقيمة في لبنان.
مع تفاقم الأزمة الاقتصادية والمالية الأخيرة التي عصفت في لبنان منذ عامين وما زالت تشتد وتستمر بشكل مخيف دون حلول واضحة في الأفق أصبحت الهجرة حلماً يرافق معظم العاملين في لبنان في مختلف القطاعات خاصة بعد انهيار قيمة العملة الوطنية وفقدان القدرة الشرائية لرواتبهم وكذلك غياب مقومات الحياة الأساسية من كهرباء ومحروقات وأدوية وغيرها وخاصة مع الرفع الكلي للدعم الذي أصبح حقيقة واقعة لا يمكن الهروب منها. لذلك أصبح العمل في الخارج لتأمين دخل مناسب للعائلة وحياة كريمة مطلبًا أساسيًا لأكثر من 70 بالمئة من الشعب اللبناني، وما هذا الرقم المخيف إلا مؤشر خطير ينذر بانهيار النسيج الاقتصادي والاجتماعي ككل على غرار ما حصل في زيمبابوي وفنزويلا اذا لم تحصل أي صدمة ايجابية تعطي بعضًا من الثقة المفقودة لمعظم اللبنانيين بالنظام السياسي القائم الذي أوصل البلاد الى حالة الانهيار الشامل عبر السياسات الاقتصادية العشوائية المعتمدة ونظام المحاصصة الفاسد الذي دمر مكونات العمل الإداري في مختلف قطاعات الدولة.
الفئات المستهدفة لهذه الظاهرة
الملفت في الهجرة الجديدة أن الذي يسعى اليها هم بالاضافة الى الشباب العاطل عن العمل مجموعة كبيرة من الكفاءات العلمية المهمة التي تشكل ضمانة لاستمرار انتاجية العمل في القطاعات الأساسية كالقطاع الصحي والتربوي من أطباء وصيادلة وأساتذة جامعيين وثانويين مشهود لهم بالكفاءة المهنية العالية التي لطالما شكلت ضمانة تطور لهذه القطاعات. وبحسب التقديرات فإن نسبة الأساتذة المهاجرين حتى اليوم بلغت حوالي من 15 % من الطاقم التعليمي والباقي ينتظر الفرصة المتاحة للقيام بذلك، وايضاً عدد الأطباء المهاجرين بلغ 1200 طبيب من أمهر الأطباء حتى اليوم بحسب نقيب الأطباء والعدد مرجح للزيادة بشكل يومي. كذلك العاملون في المجالات الانتاجية في الزراعة والصناعة وتكنولوجيا المعلومات يفكرون جديًا في ترك أعمالهم والتوجه نحو الخارج بحثًا عن عمل يؤمن لهم ولعائلاتهم مقومات الحياة المختلفة المحرومين من أبسطها في وطنهم.
كل هؤلاء المغادرين وافقوا على الذهاب دون شروط عالية كما كان يحصل بالسابق فهم بفعل الأزمة الخانقة الموجودة في البلد اضطر معظمهم الى القبول بعروض أقل بكثير من السابق نظرًا لغياب الأفق المستقبلي في وطنهم، وهذا الامر مرشح لأن يصبح ساري المفعول بالنسبة لمنتظري الهجرة الذين هم على استعداد للقبول بأي راتب شهري يضمن لهم الحد الادنى من الاستقرار الوظيفي والمعيشي.
كذلك لا تقتصر الهجرة على العاملين والشباب فقط فهي تتعداها لتصل الى المستثمرين وأصحاب رؤوس الأموال الذين لم يعد يشكل لهم لبنان ملاذًا آمنًا للاستثمار فيه في عدة مجالات. لذلك مع استمرار تفاقم الأزمة فضل العديد من المستثمرين إقفال مصالحهم في لبنان وتحويلها الى بلدان أخرى من أجل ضمان استمرارية مناسبة لأعمالهم، فشهدنا إقفال العديد من المصالح الاقتصادية الخاصة التي يملكها مستثمرون أجانب ولبنانيون، ومع استمرار الأزمة سيرتفع العدد بشكل مطرد حتى حصول شلل كلي في الاستثمار والمشاريع.
انعكاسات الهجرة الجديدة على الاقتصاد والمجتمع اللبناني
بالتأكيد اذا استمرت الهجرة بهذه الوتيرة المتسارعة وبأعداد كبيرة جداً كما هو متوقع ستكون لها انعكاسات خطيرة جداً على لبنان وخاصة في الجوانب الاقتصادية والتنموية يمكن تلخيصها بالآتي:
1- فقدان القطاعات اللبنانية للعنصر البشري الكفؤ والماهر مما سيضعف حتمًا انتاجية العمل ونوعيته.
2- دمار قطاعات عمل أساسية كالقطاع الصحي والتربوي الذي يعتمد بالدرجة الأولى على العنصر البشري المتميز.
3- انخفاض معدل الاستثمار العام بعد تزايد نسبة اقفال المصالح التجارية مما سيضعف اكثر النمو الاقتصادي.
4- خلل في الهرم السكاني بسبب هجرة معظم الفئات العمرية الشابة مما سيجعل من لبنان بلدًا هرمًا.
5- فقدان عنصر الثقة لدى الأجيال الحالية والقادمة بوطنهم لبنان مما سيضعف من حالة اندماجهم في المجتمع وهذا مؤشر خطير جدًا على النسيج العام اللبناني.
إن مؤشر الهجرة المتصاعد ينذر بخطر كبير وداهم في المستقبل القريب مما سيدق ناقوس الخطر في شتى المجالات دون استثناء، وانعكاساته السلبية سوف تطال كل النسيج اللبناني من جميع الطوائف والمذاهب بمختلف انتماءاتهم الحزبية والسياسية ولن تسلم منه أي جهة لبنانية مهما بلغ حجم قدراتها، لذلك وجب على جميع من يعنيهم الأمر في لبنان الانتباه والحذر الشديد لهذه الأزمة المتفاقمة من خلال تظافر الجهود لوقف مهاتراتهم السياسية من أجل انقاذ الكيان اللبناني من الزوال.
إقرأ المزيد في: آراء وتحليلات
23/11/2024
لماذا تعرقل واشنطن و"تل أبيب" تسليح العراق؟
21/11/2024