آراء وتحليلات
لماذا الحرب على "القرض الحسن"؟
أحمد فؤاد
في وقت تبدو فيه نذر الكابوس ظاهرة، لكل متابع، والنار مشتعلة فعلًا بلا مقدمات شرقًا وغربًا لتفادي خروج أميركي من المنطقة، لا تستطيعه واشنطن ولا يريده أحد من حلفائها دون ضبط مرحلة ما بعد أفول زمن التواجد العسكري المباشر، يفاجئنا - أو يفجعنا - بعض من أبواق الانهزام في لبنان والعالم العربي بهجوم متكرر على حزب الله من بوابة مؤسسة القرض الحسن.
الهجوم الموجه يستهدف بالطبع في خلفياته السلاح العربي الأكثر ترويعًا لكيان الاحتلال في فلسطين العربية، حزب الله، ويستهدف من ورائه مشاريع خيرية واقتصادية تقدم للناس في لبنان البديل والحل، في ظرف تتراجع الدولة ذاتها فيها عن أدوارها المفترضة، وفي ظل احتياج الجنوب اللبناني للاستثمار في البشر والحجر عقب سنوات المواجهة مع العدو الصهيوني.
والحق الذي ينطق به واقع الحال، أن المقاومة الإسلامية انتزعت لنفسها بالقدرة، ومنحتها القلوب بالإيمان، مكانة خاصة في العالم العربي، ومكانًا محجوزًا في مستقبله، بمقدار ما لعبت الدور الأكثر محورية في تحويل الرادع الصهيوني إلى ألعوبة بين أيدي أبنائها وأبنائنا، ممن حملوا شعار "هيهات منا الذلة"، فساروا على خطى الحسين(ع)، منصورين أبدًا، سواء كان عملهم عسكريًا محضًا لقطع يد الكيان، أو اجتماعيًا في سبيل حاضنة المقاومة.
الآن فقط، حان وقت حرق التجربة، ليس بالسلاح الصهيوني وحده، والذي بات عاجزًا عن الفعل أكثر من أي وقت مضى، وليس بالتدخل الأميركي الساحق، وجثث قتلاهم لا تزال تثير الرعب في نفوسهم، ومقبرة "أرلنغتون" تذكرهم وتضغط على أعصاب صانع القرار في واشنطن وتكبح الرغبة في التدخل المتهور، منذ مشهد تطاير جثث مئات المارينز في أيام مباركة من العام 1983.
المطلوب أميركيًا وبشدة في لبنان حرق التجربة، تجربة السلاح، وما وراء السلاح، وزرع بذور الشك في أرضية طاهرة، لطالما لفظت الطعم الأميركي المسموم، ولطالما ضحت ودفعت أثمانًا باهظة لنصرة المقاومة والوقوف خلف خيارها التاريخي العظيم.
مؤسسة القرض الحسن هي هدف الفتنة الأميركية الجديد، عادت إلى الواجهة عقب تصريحات من حاكم مصرف لبنان، رياض سلامة، تهاجم المؤسسة الضخمة، وتسعى لاستدخالها إلى دائرة الإدانة المجتمعية، رغم عظم دورها، وأهمية ما تؤديه، في غياب تام لأدوار مشابهة تخفف المعاناة في لبنان.
بداية، فإن أفكارًا مشابهة قد انطلقت في جميع أنحاء العالم، منذ نهاية السبعينيات على الأقل، لمجابهة تراجع الدول والحكومات في أداء أهم أدوارها تجاه الفقراء والمعوزين، فينهض المجتمع المدني بدور الدولة والحكومة والمصارف في تيسير الحياة لعموم الناس، ممن لا تساعدهم ظروفهم ولا بلدهم، وبالطبع لا تنظر إليهم المصارف من الأساس، وفق قاعدة إسلامية أصيلة عن التكافل الاجتماعي، تناساها أصحاب الدين الأميركي الجديد.
في بنغلاديش تبرز تجربة بنك جرامين "بنك الفقراء"، الذي أنشأه طالب الاقتصاد العائد من الولايات المتحدة محمد يونس إلى بلاده بنغلاديش، عقب معاينته لظروف البلد التي مزقتها الحروب والصراعات والانقسامات، في 1979.
صادفت تجربة بنك الفقراء البنغالي نجاحًا كبيرًا، وبالطبع رضا أميركيا عن طالب كان يمارس نشاطًا سياسيًا مؤثرًا بين زملائه خلال فترة دراسته هناك، والتي تزامنت مع حرب تحرير بنغلاديش، عاد الطالب السابق رئيسًا لقسم الاقتصاد في جامعة شيتاغونغ، وبدأ في استكشاف ملامح مشروعه الجديد.
ومنذ تأسيس البنك الضخم، وإلى اليوم، لا تزال الدعاية الغربية المكثفة قائمة للبنك وصاحبه، مشيدة دائمًا بالأفكار الخلاقة والمبادرة الشخصية في تغيير حياة المجتمع، وبدور مهم ومطلوب من منظمات المجتمع المدني (تعبير أميركي صرف)، حتى بلغت أوجها في تتويج بنك جرامين ومحمد يونس بجائزة نوبل للسلام، عقب ضغط أميركي مكثف، وصل إلى حد خطاب علني من الرئيس الأسبق كلينتون يطالب فيه لجنة نوبل النرويجية المانحة للجائزة بالنظر إلى يونس، قائلًا ما نصه: "يونس هو الرجل الذي كان يجب أن يفوز بجائزة نوبل منذ فترة طويلة"، وفاز بها بالفعل في 2006.
التاريخ ذاته الذي منحت فيه نوبل إلى جرامين، كان شاهدًا على إمكانيات النمو والبناء المذهلة في مؤسسة القرض الحسن، عقب تركيز صهيوني على قصف كل ما ينتمي للجمعية في عدوان تموز 2006، وتحويل 6 مقار لها إلى ركام بما فيها من أصول.
الجمعية التي أنشئت من رحم الاجتياح الصهيوني، لوضع حد لتحول اللبناني إلى لاجئ في أرضه، استمرت لتضع حدًا لتحول اللبناني إلى محتاج في بلده، ونجحت خلال سنوات قليلة في الوجود ثم التمدد، مستجيبة للمطالبات الضخمة بإنشاء فروع لها.
البنك الدولي من جانبه سبق له أن صنف جمعية القرض الحسن كأهم مؤسسة تقدم القروض الصغيرة للمواطنين في كامل لبنان، إشادة تعكس اعترافًا بدور لم يعد من المجدي أو المناسب تجاهله، في ظل ظروف متقلبة تشهدها المنطقة العربية كلها، وفي القلب منها لبنان.
الغريب أن كل أصحاب الأجندات الأميركية لا ينظرون بعين واحدة إلى بنك الفقراء والقرض الحسن، رغم تشابه المعطيات والنتائج، والفلسفة التي تحكم عمل هذا النوع من التمويل الإسلامي فائق القيمة للمجتمعات التي تعاني الأمرين مع البنوك الأجنبية وفروعها، أو البنوك الوطنية اسمًا على غير مسمى.
يستطيع كل مهتم بلبنان أن يدرك أن لحظة الحقيقة حانت، ووقت المواجهة قد حل بالنسبة إلى الجميع، الشيطان الأميركي يعيد ترتيب صفوفه وتوزيع الأدوار على جوقة العملاء والخونة، ومحور المقاومة في أمجد أيامه وأعزها، يمضي إلى ساحة الجهاد معززًا بكل ما تحمله هذه الأيام من ذكريات حرب أزلية بين الحق وكل باطل، وكلمة جبل الصبر تتردد بعد كل التضحيات: "مَا رَأَيْتُ إِلَّا جَمِيلاً".
إقرأ المزيد في: آراء وتحليلات
23/11/2024
لماذا تعرقل واشنطن و"تل أبيب" تسليح العراق؟
21/11/2024