آراء وتحليلات
الكيان الصهيوني بين الجدار الحديدي وبيت العنكبوت
فاطمة زعيتر
انطلقت رؤية القيادي في الحركة الصهيونية فلاديمير جابوتنسكي، وفقا لمقاله في 4/11/1923 من ضرورة تنفيذ المشروع الصهيوني خلف جدار من حديد يعجز السكان العرب المحليون عن هدمه. ذاك المقال الذي جاء تحت عنوان الجدار الحديدي: الصهيونية يجب أن تتقدم؛ حمل في طياته مفاتيح العنصرية تجاه العرب لعدو يريد أن يدس رؤوس أصحاب الأرض في جداره، لكي يفاوضهم في حقوقهم فيما بعد ويفرض شروطه، لأنه يرى أنه لا يمكن أن يكون هنالك اتفاقية طوعية بين اليهود والفلسطينيين، لا اليوم ولا في المستقبل المنظور.
سبعة وسبعون عامًا بين مقال جابوتنسكي "الحديدي" وخطاب "بيت العنكبوت"، ليتحول الجدار الذي كان يحمي الكيان، إلى نسيج ضعيف هو أشبه بأوهن البيوت رسم معالمه سماحة الأمين العام لحزب الله في خطاب التحرير في الخامس والعشرين من أيار/ مايو عام 2000. فمن الدولة العميقة، المتجذرة على القوة والمحصنة بالقبة الحديدية إلى دولة هشة تتآكل نتيجة مجموعة من المشاكل السياسية الداخلية والاجتماعية البنيوية؛ تحلل مفهوم الجدار الحديدي ليصبح بيتًا عنكبوتيا لا أكثر. وفي الوقت الذي لم يعارض فيه نموذج جابوتنسكي فُتح حوار مع الفلسطينيين في مراحل تالية، باتت اليوم لغة الصواريخ والمسيّرات هي التي ترسم المعادلات بين الكيان والفلسطينيين. وعلى عكس ما كان يؤمن، أنه وبعد أن يشجّ الفلسطينيون رؤوسهم بلا جدوى في هذا الجدار سيقرون مع الوقت بأنهم في وضع دائم من الضعف، وعندها يحين موعد تدشين مفاوضات معهم حول وضعهم وحقوقهم القومية في فلسطين، انقلب الوضع الإسرائيلي ليرجو قوى دولية لينعم بالأمن والهدوء.
اليوم، يصرح روني ألشيخ المفتش العام السابق لشرطة "إسرائيل" أن عودة مصطلح بيت العنكبوت إلى النقاش "يشكل تهديدًا استراتيجيا لإسرائيل"، بعدما كان منظرو الكيان يعتدّون بجدارٍ فولاذي أبعد ما يكون من الاختراق أو التضعضع.
وحيث كان يدعي صاحب فكرة الجدار الحديدي الاختلاف مع الفلسطينيين ولكن مع الحفاظ على الاحترام، في الوقت الذي يرى فيه أنه من المستحيل طرد العرب من فلسطين، وانه سيبقى دائمًا هنالك شعبان في فلسطين، بشرط أن يصبح اليهود أغلبية، مع المساواة في الحقوق؛ تجلت أبشع نماذج التمييز العنصري بين العرب واليهود على الأراضي المحتلة، وتم التنكيل بالفلسطيني أشد تنكيل وعمل الصهاينة على ترحيل أصحاب الأرض قسرا من منازلهم وقراهم وحتى من بلادهم بشكل كلّي وجمعي.
اليوم، وبعد تزلزل معالم الجدار الحديدي، بات الأمن أمرًا صعبا إن لم نقل مستحيلا على الأراضي المحتلة، وبات أهون الحلول على اليهود هو حمل حقائب السفر والعودة إلى حيث أتوا، وذلك لأن الأمن في كيان قائم على أرض الغير هو "شرط وجوب لا شرط كمال".
إن جابوتنسكي الذي كان قد صرح في مقاله أنه مستعد لأن يقسم ويلزم نفسه وأبناءه أنهم لن يفعلوا شيئًا يناقض مبدأ الحقوق المتساوية، وأنهم لن يحاولوا طرد أحد، عاد واستدرك كلامه بوصفه عقيدة مسالمة، ليتساءل حول امكانية تحقيق هدف مسالم باستخدام وسائل سلمية دائمًا.
وللإجابة عن هذا السؤال، اعتبر جابوتنسكي ان الأمر لا يعتمد على موقفهم تجاه العرب، بل بشكل كلي على موقف العرب تجاههم وتجاه الصهيونية. وبرأيه، "لا يمكن أن يكون هنالك اتفاقية طوعية بين اليهود وبين عرب فلسطين، لا اليوم ولا في المستقبل المنظور"، وهو لا يريد إيذاء الصهاينة المعتدلين، ولا يظن أنهم سيتأذون بـ"اسثتناء أولئك الذين ولدوا عميانًا، فقد أدركوا منذ زمن بعيد أنه من المستحيل أن يقبل عرب فلسطين طواعية بتحويل "فلسطين" من دولة عربية إلى دولة بأغلبية يهودية".
إن ما حصل في الحرب الفلسطينية الأخيرة هو سريان ضمني لصلاحية نظرية بيت العنكبوت على الجيش الإسرائيلي. هذا الجيش الذي وصفه موشيه يعالون، قائد الأركان ووزير الحرب السابق، بأنه في مواجهة إرادة المقاومة الصلبة، يكون عرضة لهلع يفقده توازنه "إسرائيل دولة قوية عسكرياً، لكن مجتمعها المدني هو مجتمع رفاهية مدلل غير مستعد للقتال. في مقابل قوة الجيش الإسرائيلي وتفوّقه التكنولوجي والاستراتيجي، لا يبدي الجمهور الإسرائيلي استعداداً للتضحية بحياة أبنائه من أجل الدفاع عن مصالحه القومية وأهدافه الوطنية. لذلك، فإن إسرائيل مثل بيت العنكبوت، تبدو قوية من الخارج، لكن عندما تلمسها تتفكك".
إن مصداق بيت العنكبوت بدا جليا غامضا بعد آخر صراع صهيوني مع المقاومة في لبنان، ورسم معالم خيوطه في حرب غزة هذا العام.
كل شعب أصلي، متحضر أم لا، بحسب فكر الصهيوني جابوتنسكي "يعتبر أراضيه وطنه الأم، ويعتبر نفسه السيد الوحيد على هذه الأرض، ويريد الحفاظ على هذه السيادة دومًا، وسيرفض الاعتراف بأي أسياد جدد، بل لن يعترف بأي شركاء في هذه الأرض".
هذا الفكر كفيل بأن يطرد الصهاينة من الأرض المحتلة، ولو بعد حين، ولو جاؤوا بجدران فولاذية ولو بنوا فلسطين بأكملها مستوطنات لأنها "مستعمرات" كما عبر عنها جابوتنسكي، وهي لم تتأتَّ من صلب الأرض بل هي مبانٍ هشة مستعارة كما قاطنوها.
إقرأ المزيد في: آراء وتحليلات
21/11/2024
خطاب الأمين: قوةٌ وتمكين ونصرٌ وتطمين
19/11/2024