آراء وتحليلات
لبنان.. التخطيط الإقتصادي وإشكالية بنية الدولة
محمد علي جعفر
يدور الحديث اليوم في لبنان حول دراسة "ماكنزي" ومدى ملاءمتها للواقع اللبناني. الكلمة التي ألقاها وزير الإقتصاد بالأمس، أشارت الى وجود تناقضات بينه وبين وزير الإقتصاد السابق، في التعاطي مع الدراسة. صحيحٌ أن الوزير الحالي يتعاطى بإيجابية، لكن كلمته لم تعجب البعض الذين شعروا بالريبة لأن الوزير لم يعترف بتوصيات سلفه، وأعاد الأمور الى نقطة حق وزارة الإقتصاد الحالية في تقديم رأيها الخاص بالدراسة. في وقت يسعى الماكنزيون كما باتوا يوصفون، الى دفع الأمور نحو إقرار توصيات الشركة الإستشارية.
وهنا وبعيداً عن السجال الحاصل، فإن الشكوك حول جدوى الدراسة ليست بجديدة. كلفة انتاج الشركة لخطة إقتصادية للدولة اللبنانية (1.3 مليون دولار) شكلت مع مطلع العام 2018 فضيحة بحد ذاتها. خصوصاً أن هذه الخطّة التي أعدتها "ماكنزي" حالياً، هي نفسها دراسة "بوز أند كومباني" والتي سبق وأن أُعدت عام 2010 لكن بصيغة جديدة. ما يطرح الكثير من التساؤلات حول الكلفة التي يتكلفها لبنان من تمويله للدراسات دون استخدامها. هذا ولم يبدأ الحديث بعد عن فعالية وقيمة الدراسات التي تُعد. منذ التسعينيات وحتى اليوم، وفي الأعوام 1995- 2000 - 2003 - 2006 - 2007 و 2010 وُضعت عدة خطط للإصلاح المالي والإقتصادي للدولة اللبنانية. شركات استشارية خارجية قدمت خدماتها، ودفعت الخزينة العامة تكلفتها فيما بقيت الدراسات في أرشيف الوزارات المعنية. المشكلة لم تكن يوماً في آلية إدارة العمل الإستشاري الخاص بالدولة ومشاريعها والسجال حول الأسباب التي تدفع بحصر الإستعانة بالخبرات الخارجية دون الإستعانة بالخبرات المحلية، بل تتعدى ذلك للتساؤل عن لماذا وكيف أصبحت هذه المشاريع عنواناً لتجيير أموال الخزينة العامة الى أطراف استشارية بناءً لقواعد المحسوبية. ولماذا لا يوجد تشريعات تحكم ذلك وفق مصلحة لبنان كدولة واللبنانيين كشعب. ما يجعل توجهات كهذه مثالاً على فساد السلطة الحاكمة.
هنا يعود بنا الموضوع الى أصل المشكلة. ما أشرنا اليه هو أحد أمثلة الفساد. والفساد الإداري والإقتصادي هو إحدى نتائج فساد النخبة الحاكمة. ولفساد النخبة الحاكمة في لبنان أسباب بنيوية تعود لما قبل لبنان الحديث أو ما يُعرف بلبنان بعد الطائف. تحتاج المسألة لفهم طبيعة تفاعل النظام السياسي اللبناني ومدى ملاءمته مع البنية الإجتماعية والأسس التي تنطلق منها النخبة الحاكمة في فهم التوازن اللبناني الداخلي. حيث يُعتبر فهم البنية الإجتماعية أصلاً في التخطيط لأي دولة، وأساساً في وضع الأطر التي تجعل من التطوير دافعاً يؤمن التوازن والإستقرار في المجتمع. فالمسائل الإجتماعية تقع بحد ذاتها كمعايير ضرورية للأخذ بها، كونها تتعلق مباشرة بالشعب الذي يُفترض أن تكون مسألة إدارة وحماية مصالحه هدف الدولة. لنقول إن المشكلة في لبنان تتعلق ببنيته التي لم تكن يوماً بنية سيادية. والبنية السيادية هي البنية القادرة على إدارة نفسها دون الحاجة لأحد!
منذ العام 1926 وحتى اليوم يعيش لبنان حالة لا استقلال إداري. بقي لبنان أسير المعادلات الإقليمية وعلى كافة الأصعدة، في ظل غياب عناصر إمكانية قيام الدولة ما يجعل النخبة الحاكمة في لبنان سلطة وليست دولة. لم يمتلك اللبنانيون حتى اليوم قدرة الإعتماد على الذات في بناء دولة القانون والمؤسسات. ففي لبنان لم يوجد حتى اليوم بنية سياسية. هناك فقط تيارات سياسية تراعي مصالحها الداخلية والخارجية. وهو ما ولد الزبائنية لدى الأطراف السياسية قبل الشعب. فتقدمت قوة السلطة على الدولة وهو ما رسَّخه دستور لبنان قبل الإستقلال والذي كتبته سلطات الطوائف. تبلورت الصيغة التي تحكم لبنان طائفياً ومذهبياً، ما جعل هذه الإنتماءات تحكم الجغرافيا اللبنانية، وبقيت هذه الصورة تطبع لبنان الى ما بعد الإستقلال. سطوة الجغرافيا انتصرت على السياسة وساهمت في ترسيخ الخلل الإجتماعي وبالتالي الإقتصادي. ليكون الحكم في لبنان هو عبارة عن مراعاة مصالح فئات السلطة وليس الشعب. زاد غياب الإنسجام الإجتماعي من عدم توازن السياسات الإقتصادية. ما منع اللبنانيين من العيش المشترك، وبالتالي كل من يصل الى السلطة سيكون وليد هذا الواقع المرتبط بجذور تاريخية لا تراعي مبادئ الإنسجام والتلاحم الإجتماعي. فهل يمتلك أحد جرأة الإعتراف بذلك؟ ومتى سيُقرر اللبنانيون العمل معاً لوضع ميثاق وطني جامع جديد؟
هنا يأتي دور وأهمية التحديث السياسي الذي يمكن أن يحوِّل النخبة الحاكمة من سلطة تُصرِّف أعمال الدولة الى مسؤولين قادرين على صُنع القرار وبناء أركان الدولة. الأمر الذي لم يعتد عليه الواقع اللبناني. وهو ما يُعيدنا الى أهمية الخروج بميثاق لبناني جديد، يبلور أنماطاً جديدة من الولاء والمواطنة والقيم المشتركة، ويُخرجنا من العمل السياسي القائم على إدارة الأزمات والإستفادة منها.
إذاً ليست المعضلة في لبنان معضلة دراسة لشركة استشارية ومدى فعاليتها فقط. المعضلة هي معضلة غياب عناصر إمكانية بناء وقيام الدولة. المشهدية التي جرت بالأمس في مكتبة مجلس النواب وورشة العمل التي عقدت وخُصصت لمناقشة توصيات "ماكنزي"، تُشير الى الخلل الكبير في أداء السلطة اللبنانية وكيف تجري الأمور بناءً لمصالح فئات سلطة اليوم، والتي قد تتناقض مع مصالح فئات سلطة الأمس! هي ليست مشكلة التخطيط الإقتصادي فحسب، هي مشكلة بنية الدولة!
إقرأ المزيد في: آراء وتحليلات
29/11/2024