آراء وتحليلات
إلى أين ستمضي بكركي في "حراكها" و"مشروعها"؟
ابراهيم صالح
على السطح تبدو "العاصفة" السياسية التي بدأها البطريرك الماروني بشارة الرعي بشكل متدحرج منذ أكثر من عام، تحت عناوين جوهرها حياد لبنان ثم الدعوة الى تدويل الوضع فيه، قد تراجعت وانقشع غبارها نسبيا إذ عاد الهدوء ليكتنف بكركي بعد موجات من الصخب والضوضاء.
اما في العمق فإن افراد الدائرة الضيقة المحيطة بأعلى مرجعية روحية مسيحية تبلغ الى من يعنيهم الامر بأن الراعي مصمم على المضي قدما في المسار السياسي الذي اعلن انطلاقته قبل فترة، اذ انه وفي التفاصيل عازم على زيارة وشيكة لعواصم خليجية ثم سيكمل جولته باتجاه الفاتيكان. والمهم انه لن يوقف اندفاعته الى ان يحقق الهدف المرتجى والمعلن والذي بات يختصره بشعار: "تحرير القرار اللبناني" من هيمنة مزعومة لم يشأ ان يسميها ولكنها معلومة لكل متابع للسجال السياسي الذي يفرض نفسه على المشهد اللبناني بقوة منذ انطلاق ما صار يعرف بـ "حراك 17 تشرين الاول" ومن ثم استقالة حكومة الرئيس سعد الحريري وعجزه عن إعادة تأليف حكومة جديدة بعد تكليفه بهذه المهمة التي تصدى لها طائعا ومتحمسا وواعدا منذ نحو ستة اشهر.
لم يعد جديدا القول ان حراك الراعي يستقي الجزء الاكبر من مبرراته ومسوغاته من هذا العجز عن تأليف الحكومة وما يواكبها من فراغ سياسي وفوضى تقارب حد الفلتان إضافة الى هذا القصور الذي تبديه النخبة السياسية المتمرسة بالحكم والسلطة عن فعل جدي يضع حدا للانهيار ويفتح الباب امام عملية إنقاذ واعدة.
كما لم يعد مفاجئا ان الحراك الذي أعلنه البطريرك فتح الباب واسعاً امام مزيد من الانقسام والتنابذ والخلاف في عمق الاجتماع اللبناني، لا سيما بعد ان قصر هذا المرجع الديني العالي عن تبديد مخاوف وهواجس شريحة واسعة ووازنة من اللبنانيين خصوصا اولئك الذين وجدوا في حراكه (الراعي) وشعارات هذا الحراك نيلا من ثقافة المقاومة ونهجها واستهتارا بجمهورها وتاريخها.
ولا ريب ان منسوب هواجس هذه الشريحة ارتفع بعدما قدم البطريرك الراعي نفسه وكانه ينطق بلسان اللبنانيين جميعا في محاكاة جلية لادوار كان اداها سادة هذا الصرح مذ نشوء الكيان اللبناني في مطالع عشرينيات القرن الماضي.
ولم يعد خافيا ايضا انه في كل مرة كانت تصل الى اسماع بكركي وسيدها ما يفيد التحذير والنصيحة من طروحاتها الانقسامية في هذه المرحلة كان رده النفي والقول ان الطرف الاخر قد قاطعه بعد زيارته لفلسطين المحتلة، فبدا وكان هناك جفوة ومنطقة فراغ سببت سوء فهم مما حال دون ان يشرح للاخر مضامين حراكه و"ابعاده الوطنية " التي لا تستهدف احدا فكان ان بادر "حزب الله" الى التواصل عبر لجنة الحوار المولجة في بكركي (المطران مظلوم وحارس شهاب).
في حينها كان واضحا ان الحزب بخطوته الانفتاحية تلك والتي اتخذها بعد تشاور معمق، اراد ان "يقيم الحجة "وان يستمع مباشرة الى وجهة نظر سيد الصرح. اجتماع يتيم تم. وهو امر ذو دلالة اذ كانت معلومات مستقاة قد افادت بأن الخطوة التالية اي ذهاب وفد من الحزب للقاء الراعي مباشرة ستتقرر في ضوء نتائج لقاء لجنتي الحوار بين الطرفين. ولما لم تكن هناك خطوة تالية فإن ثمة تقديرا قد سرى فحواه ان الامر توقف عند حدود اللقاء وكسر الجليد.
وفي كل الاحوال ثمة في الاوساط السياسية والاعلامية الراصدة لحراك بكركي وجهتا نظر حيال مستقبل الحراك الذي بدأه البطريرك واراده فعلا مدويا.
الأولى تستند الى استنتاج فحواه ان البطريرك الراعي قد أخذ فرصته ولم يجد الصدى المنتظر والذي من شأنه ان يشجعه على المضي في مغامرته السياسية الى النهاية المرتجاة انطلاقا من وقائع عدة ابرزها:
ـ ان البطريرك يشعر من خلال مساءلة عدد من المشاركين في التظاهرة الشهيرة الى الصرح والتي أرادها الذروة و"الشاهد على التعاطف معه"، ان الرياح لا تسير وفق ما يشتهيه، فالمزاج المسيحي لم يكن وفق ما توقع وتصورته دائرة المستشارين المحيطين به.
ـ ان العواصم الغربية التي كان يظن البطريرك انها ستهب للتجاوب مع حراكه ودعوته، قابلت الامر ببرودة شديدة، مما أوحى له بان أحدا ليس في وارد "التطوع" لدعم حراك الراعي وتحويله إلى قضيته، لأن المسألة ليست بالسهولة واليسر، فضلا عن أنها تعي في الضمن ان هكذا مشاريع تفضي الى مزيد من التأزم في الواقع اللبناني المأزوم أصلا.
إلا أنه في المقابل، ثمة من يرى مشهدا آخر مختلفا الى حد ما، اذ يرى ان حراك البطريرك الراعي قد حقق له على المستوى الشخصي هدفا مضمرا وهو ان يترك تراثا سياسيا يجعله في مصاف "بطاركة كبار" مثل البطريرك الحويك والمعوشي وصفير، الذين ينظر إليهم على أنهم أدوا ادوارا محورية في التاريخ.
فضلا عن ذلك، فالبطريرك الراعي قد وجد في المكتب السياسي المحيط به (6 وزراء سابقين وآخرين) من شكك انه نجح الى حد بعيد في اضعاف الحال السياسية المسيحية وخصوصا الحالة العونية، اي الرئاسة الاولى، والتيار الوطني الحر. والامر ليس مستجدا في التاريخ الحديث للبطريركية المارونية اذ دخلت في خلافات حادة مع العهود الرئاسية المتعاقبة بغية استرداد القرار السياسي منها والقبض عليه واخذه الى مناح مناقضة تماما.
وعليه تفترض المصادر الراصدة ان البطريرك الراعي ليس في وارد التراجع، انطلاقا من حسابات ضمنية ومعلنة، فالدوائر الضيقة المحيطة به تعتقد أن "تحركه" امر مطلوب الان قبل ان يأتي حين من الدهر ويصير القرار اللبناني في مكان آخر".
بالاضافة الى ذلك، فإن هؤلاء وان أقروا في الغرف المغلقة بأنهم لم يجدوا التجاوب المنتظر مع خطاب البطريرك ومشروعه السياسي، الا أنه فرض أمرا واقعا لا يمكن بعد اليوم تجاهله، وان هذا الامر يمكن البناء عليه لاحقا، خصوصا وان هؤلاء مقتنعون ضمنا بأن ثمة تسويات على مستوى الاقليم تحاك خيوطها، وتعيّن ان نكون حاضرين".
وعليه، حسب التقديرات، فإن البطريرك الراعي مضطر الى تزويد حركته وطروحاته بجرعة دعم، لكي يبرهن لمن يعنيهم الامر أنه ما انفك حارسا لـ"مبادرته"، ولا يريد ان تظهر بمظهر المحتضر.
إقرأ المزيد في: آراء وتحليلات
23/11/2024
لماذا تعرقل واشنطن و"تل أبيب" تسليح العراق؟
21/11/2024