معركة أولي البأس

آراء وتحليلات

الكيانية الطائفية اللبنانية الموالية للإمبريالية
30/03/2021

الكيانية الطائفية اللبنانية الموالية للإمبريالية

صوفيا ـ جورج حداد

الظاهرة الإستعمارية هي مرحلة من مراحل التطور المجتمعي للدولة الاستعمارية. وهذه الظاهرة تعني أساسًا السيطرة العنفية للدولة الإستعمارية على البلد أو الشعب المستعمر واستغلال واضطهاد ذلك الشعب.

ولكن بعد هذا التوصيف العام، علينا أن نتبين أن التجربة التاريخية تقدم لنا نمطين رئيسيين من الإستعمار:

الأول ـ نمط "الاستعمار الخالص"، أي "الاستعمار المنقطع" عن المجتمع الذي ينطلق منه، والذي يستفرد بالبلد أو الشعب المستعمر، ويستبد به بشكل مطلق، وحتى الإبادة الكاملة أو شبه الكاملة للشعب المستعمر، والسيطرة على أرضه، دون ان تقوم القوة الإستعمارية بتقديم أي إنجاز حضاري من مجتمعها، للشعب المستعمر، ودون أن تخشى أي حساب من مجتمعها على إبادة الشعب المستعمر. والمثال النموذجي لهذا النمط هو الإستعمار الأوروبي لما يسمى الولايات المتحدة الأميركية في أميركا الشمالية. اذ بعد اكتشاف تلك الأرض، قام الغزاة الأوروبيون البيض، بإبادة من سموهم "الهنود الحمر" ــ السكان الأصليين لتلك الأرض ــ إبادة شبه كاملة (يقول الباحث التاريخي الفلسطيني المقيم في أميركا، منير العكش، أن عدد ضحايا تلك الإبادة الأضخم في التاريخ العالمي يبلغ 112 مليون "هندي احمر"، دون ان يخشى الغزاة الاستعماريون أي محاسبة لهم من قبل المجتمع الأوروبي على هذه الجريمة الكبرى ضد الإنسانية. وقد استفاد الغزاة المتوحشون في ذلك من عدم وجود اتصال جغرافي ومجتمعي بين أوروبا وبين الأرض والسكان الأصليين لما سمي "اميركا"، ومن ثم الجهل والتجاهل لما كان يجري هناك من مذابح.

ثانيا ـ والنمط الثاني هو "الإستعمار التوسعي" أو "الإستعمار المتصل"؛ حيث يقوم البلد الاستعماري بالسيطرة العنفية على بلد أو شعب آخر، هو على اتصال جغرافي ومجتمعي وحضاري تاريخي بالشعب أو المجتمع الإستعماري. وهذا النمط من الاستعمار يكون "بمشاركة" و"تحت الرقابة الكاملة" من قبل "المجتمع" أو "الشعب الاستعماري". وفي هذا "النمط الاستعماري المتصل" فإن القوة الاستعمارية ــ ومن أجل تبرير الاستعمار أمام مجتمعها وشعبها ــ تضطر:

1 ـ أن تقدم بعض الإنجازات المجتمعية، الحقيقية أو الوهمية، للبلد أو الشعب المستعمر.

2 ـ  أن تجد المبررات التاريخية الحقيقية أو المزيفة من أجل تفسير وتبرير عمليات القمع الإستعماري ضد الشعب المستعمر.

وقد كانت المنطقة الممتدة على طول سواحل جنوب وشرق البحر الأبيض المتوسط من المغرب وحتى كيليكيا المحتلة من قبل تركيا (ويقع لبنان الحالي في قلب هذه المنطقة) مهدًا للحضارة العالمية منذ عشرات آلاف السنين، وعلى تواصل واندماج ومزاحمة وصراع، مجتمعيًا وحضاريًا واقتصاديًا وسياسيًا وعسكريًا، مع الجماعات الإنسانية والمجتمعات والدول الأوروبية في شمالي وغربي البحر المتوسط.

ولذلك فإن عملية استعمار الشرق العربي، بعد انهيار الامبراطورية العثمانية في الحرب العالمية الأولى، كانت "تحت النظر التام" للمجتمعات الأوروبية وبـ"مشاركتها" المباشرة سلبيًا وايجابيًا، وأشبه شيء بـ"قضية داخلية" لتلك المجتمعات، بكل سلبيات وايجابيات حالة التطور التي بلغتها تلك المجتمعات، بما في ذلك بلوغها مرحلة الظاهرة الاستعمارية.
 
وهذا الوضع التاريخي كان يفرض على الدولتين الإستعماريتين بريطانيا وفرنسا أن تتعاملا مع الشرق العربي المستعمر، بنمط "الاستعمار المتصل"، أي استعمار المجتمع الإستعماري (البريطاني والفرنسي والاوروبي) للمجتمع المستعمر (العربي).

أي أن الدولتين الاستعماريتين كانتا مضطرتين لأن تقدما لمجتمعهما ذاته، وللمجتمع الدولي بأسره، تبريرًا حضاريًا ـ سياسيًا ـ تاريخيًا لاستعمار الشرق العربي. من هنا كان استخدام بريطانيا وفرنسا لشعار التحرر من الإستعمار التركي الغاشم. وتطبيقًا لذلك كانت، على سبيل المثال، مشاركة الانكليز في "الثورة العربية الكبرى" بقيادة الشريف حسين وأولاده في 1916. كما كان "المؤتمر العربي الاول" الذي عقده المتنورون الاستقلاليون العرب (من "السوريين" و"اللبنانيين"  في باريس سنة 1913، برعاية الدولة الفرنسية؛ وقد أطلق عليه اسم "مؤتمر الشهداء" لأن قسمًا كبيرًا من المشاركين فيه تم إعدامهم على أيدي الأتراك في 1915 و 1916.

وفي لبنان بشكل خاص تم استخدام شعار "الدفاع عن المسيحيين وحمايتهم". ومع أن فرنسا (والدول الاستعمارية الاخرى اجمع)، المنتصرة في الحرب العالمية الاولى، لم تقم بأي جهد من أجل محاكمة تركيا، فإنها استغلت شعار حماية المسيحيين، من أجل خلق اكذوبة "القومية اللبنانية".

واستنادًا الى هذه الأكذوبة التاريخية التضليلية، التي كان يراد بها تسميم وعي الجماهير المسيحية اللبنانية وخاصة المارونية، وفي الوقت ذاته تضليل المجتمع الفرنسي والمجتمع الدولي باسره، تم انشاء "دولة لبنان الكبير"، بضم الأقضية الأربعة (بيروت والجنوب والبقاع والشمال) الى متصرفية جبل لبنان العثمانية السابقة، وفصل هذه الدولة عن سوريا الطبيعية.

وقد عملت الإدارة الاستعمارية الفرنسية، بالتعاون مع بعض الأوساط الطائفية والطامعة في التسلط على الجماهير الشعبية المسيحية، عملت لأجل تحويل لبنان الى "اسرائيل مسيحية" تحت الهيمنة الفرنسية، في مقابل "اسرائيل اليهودية" تحت الهيمنة البريطانية في فلسطين.

وقد عملت الإدارة الإستعمارية الفرنسية، ومعها ومن بعدها الإمبريالية البريطانية والإميركية، تحت شعارات "الدفاع عن المسيحيين!" وضمان "حقوق المسيحيين!"، ـ عملت على تركيب كيانية "دولة لبنان الكبير" على أسس محاصصة طائفية تحتل فيها المرتبة الأولى المجموعة الطائفية المارونية الموالية لفرنسا الإستعمارية، ومن ورائها الإمبريالية الغربية.

وبناء على هذه التركيبة المحاصصية الطائفية، تم تسليم الطائفية المارونية كل مفاصل الدولة اللبنانية (من اصغر موظف الى اكبر مسؤول)، وكل مقدرات الإقتصاد اللبناني، وقطاعات التعليم والإعلام في لبنان، بالتعاون مع شرائح المتمولين والمتنفذين والرأسماليين الجدد، الذين انتقلوا من خدمة السلطان التركي الى خدمة الإستعمار الفرنسي والبريطاني والأميركي. ولكن منح المكاسب للمتنفذين والمتمولين، أذناب الرجعية العربية ـ الاسلامية والامبريالية والصهيونية، لم ينسحب طبعًا على عامة الجماهير الشعبية الاسلامية، وخاصة الشيعية، التي عوملت في "دولة لبنان الكبير" كمواطنين من الدرجة الثانية والثالثة، تمامًا كمعاملة الفلسطينيين العرب في الدولة الصهيونية.

ولتأمين حاجات الإدارة الإستعمارية من الموظفين والإداريين والمهنيين، ولتخدير الجماهير اللبنانية، من جهة، وتضليل المجتمع الفرنسي والاوروبي والحصول على دعمه للاستعمار، من جهة ثانية، فتحت الادارة الاستعمارية الطريق لبناء اللبنات الاولى لتكوين الدولة اللبنانية. فتوسع انتشار المعاهد التعليمية، وشق الطرقات، وتحديث المرافئ والمطار والسكك الحديدية وخط الترامواي في بيروت، وانشاء بعض الصناعات والحرف لتأمين حاجات جيوش الاحتلال والسوق المحلية، واصدار العملة اللبنانية ـ السورية (المرتبطة بالفرنك الفرنسي)، وانشاء برلمان، واصدار دستور لبناني (منسوخ عن الدستور الفرنسي) في 1926. وشرّعت دستوريا حرية الصحافة وتشكيل الاحزاب والنقابات وحماية حرية المعتقدات الدينية. وأقرت مبادئ الجمهورية البرلمانية القائمة على المحاصصة الطائفية.

ولكن خلف هذا المظهر الدستوري ـ التنموي ـ التحديثي ـ الدمقراطي ـ الطائفي، كانت الادارة الاستعمارية تخشى من خطرين داهمين على الكيانية اللبنانية التابعة للاستعمار والامبريالية الغربية، والحليفة الضمنية، المستورة او المكشوفة، للصهيونية ودولتها اليهودية في فلسطين المحتلة. وهذان الخطران هما:

الأول ـ خطر الفكر القومي العربي (واستطرادا الفكر القومي السوري) وكل فكر وطني تحرري معاد للاستعمار والامبريالية والصهيونية.
والثاني ـ خطر الفكر الشيوعي والاشتراكي والاصلاحي الاجتماعي والثوري، خصوصًا بعد انتصار الثورة الاشتراكية العظمى في روسيا في 1917 وانتشار الفكر الشيوعي في اوروبا والعالم.

وأكثر ما كانت الادارة الاستعمارية تخشاه هو انتشار الفكر القومي والتحرري الوطني والاشتراكي والشيوعي، في صفوف الجماهير الشعبية المارونية والمسيحية عامة.

ولدرء المخاطر على الاستعمار والكيانية اللبنانية التابعة له، فإن الادارة الاستعمارية والسلطات "اللبنانية"، وتحت ستار القانون، وحفظ النظام والامن، و"السيادة اللبنانية"، عملت على الدوام على عدة خطوط اهمها:

ـ1ـ تشديد القمع ضد الاحزاب والمنظمات والحركات والنقابات، الشيوعية والقومية العربية والقومية السورية. وتجلى ذلك في الاضطهادات التي تعرض لها القادة الشيوعيون والقوميون الاوائل، منذ سنة 1925 (اعتقال وسجن ونفي فؤاد الشمالي ويوسف ابرهيم يزبك وارتين مادويان ونقولا الشاوي ورفاقهم)، وهي الاضطهادات التي توجت بالاغتيال الدنيء للمفكر النهضوي العظيم انطون سعادة، بعد قيام الدكتاتور السوري حسني الزعيم، بتسليمه الى العصابة الحاكمة في لبنان العميلة للانكليز والصهيونية. ومن أكبر مهازئ تاريخ "دولة لبنان الكبير" انه حتى اليوم لم يصدر حكم قضائي أو مرسوم جمهوري باسقاط وادانة الحكم بالاعدام، باسم "الشعب اللبناني"، على انطون سعادة، أحد أعظم ابناء "جبل لبنان"، ورجال النهضة العربية، بينما ترفع التماثيل في قلب بيروت للخونة الذين قتلوه.  

ـ2ـ تمتين العلاقات بين "الطائفيين اللبنانيين المتصهينين" وبين الصهيونية (أولا بشخص الوكالة اليهودية الدولية، واخيرا بشخص الكيان الاسرائيلي). وقد بدأت هذه العلاقات، ببركة فرنسا وبريطانيا، منذ 1920، واستمرت وتعمقت الى اليوم، ببركة الامبريالية الاميركية.

ـ3ـ تمتين العلاقات بين بعض "الطائفيين المسيحيين المتصهينين" وبين الأنظمة الرجعية العربية والاسلامية، للوقوف صفا واحدا، جنبا الى جنب الامبريالية و"اسرائيل"، ضد الحركة التحررية العربية، في لبنان وخارج لبنان.

ـ4ـ تأسيس ودعم أحزاب يمينية لبنانية لتشكل طابوراً خامساً طائفياً، ايديولوجياً وسياسياً وعسكرياً، للامبريالية والصهيونية، في قلب الكيانية اللبنانية. وتقوم عقيدتها على:

أ ــ محاربة الإسلام بوجهه الشعبي والتحرري. والارتباط بالانظمة الاسلامية الرجعية والعميلة للامبريالية، وبالصهيونية و"اسرائيل"، تحت شعارات "التآخي الديني" لاتباع الديانات السماوية.

ب ــ محاربة القومية العربية (والفكرة القومية السورية) التحررية، تحت شعارات "القومية اللبنانية" و"الفينقة" و"الوطن القومي المسيحي" و"السيادة اللبنانية" المزعومة.

ج ــ محاربة الشيوعية والاشتراكية والاصلاح والعدالة الاجتماعية، تحت شعارات "الدمقراطية" و"الحرية الليبيرالية".

هذه الاحزاب "مدرسة نموذجية" في الديماغوجية، وتبلغ هذه الديماغوجية الآن قمتها في ركوب موجة ما يسمى "الثورة" في لبنان حاليا، والدعوة الى احتلال الدول الامبريالية للبنان باسم التدويل، والى نزع سلاح المقاومة وفتح لبنان من جديد أمام الغزو الاسرائيلي، بحجة الحياد وتحييد لبنان عما يسمى "الصراعات الاقليمية".

لقد حارب بعض "الطائفيين المتصهينين" الى جانب القوات الغازية الفرنسية في معركة ميسلون في 1920، وخلال الثورة السورية الكبرى في 1925 ـ 1927. ورغم كل الشبهات التي تحيط بجامعة الدول العربية، والطابع المسرحي للحرب العربية ـ الاسرائيلية في 1948 ـ 1949، فقد وقفوا ضد انتماء لبنان الى جامعة الدول العربية وضد مشاركة الجيش اللبناني في حرب 1948 ـ 1949. وقد دعا احد الطائفيين المسيحيين البارزين في مطلع الخمسينات من القرن الماضي الى التحالف المكشوف مع الكيان الإسرائيلي، والى طرد المسلمين اللبنانيين الى الصحراء.

ووقفت هذه الاحزاب ضد مصر الناصرية ومع بريطانيا وفرنسا و"اسرائيل" في العدوان الثلاثي على مصر سنة 1956. وقاتلت ضد الإنتفاضة الشعبية اللبنانية سنة 1958. وحملت السلاح وقاتلت ضد المقاومة الفلسطينية منذ ظهور العمل الفدائي في 1965.

وهذه الاحزاب هي التي أشعل فتيل الحرب اللبنانية في 1975، وبرزت بطولاته في الذبح على الهوية، ودعم استدعاء "قوات الردع العربية" والقوات "متعددة الجنسية" الى لبنان، ورقص قادتها على الطاولات (كما روى زياد الرحباني) لدى اسقاط مخيم تل الزعتر بالتعاون مع "قوات الردع العربية"، وقرع عناصرهم أجراس الكنائس فرحا لدى اغتيال زعيم الحركة الوطنية كمال جنبلاط في 16 اذار 1977، وساندوا الاحتلال الاسرائيلي للبنان سنة 1982، ونفذوا مع عصابة سعد حداد مجزرة صبرا وشاتيلا. ولدى فرض خيارهما الرئاسي كبدل عن ضائع في رئاسة الجمهورية، قاموا حينذاك بالتعاون مع عناصر من المكتب الثاني باعتقال وخطف اكثر من 2000 كادر قيادي ومناضل من جميع احزاب ومنظمات الحركة الوطنية اللبنانية، لا يزال مصيرهم مجهولا حتى اليوم.

والأن، يرى هؤلاء المتصهينون، وحليفهم التابع للسعودية، أن مشكلة لبنان ليست في خطر "اسرائيل"، وليست في النظام الرأسمالي المتغول والمتعهر والتابع للامبريالية والصهيونية، الذي  يتولى مهمة تجويع واخضاع الشعب اللبناني، بعد أن فشلت "اسرائيل" في اخضاعه عسكريًا في حرب 2006، بل المشكلة هي في سلاح المقاومة الوطنية الإسلامية اللبنانية وعلى رأسها حزب الله، التي وقفت وتقف كالطود في وجه "اسرائيل" والامبريالية الاميركية.

لكن هؤلاء لن يكونوا أبدًا أقوى وأقدر لا من السعودية في اليمن ولا من "اسرائيل" في لبنان.
ــــــــــــــــــــــــــــــــ
*كاتب لبناني مستقل

إقرأ المزيد في: آراء وتحليلات