آراء وتحليلات
الشهيد السيد محمد باقر الحكيم.. أمّة في رجل
بغداد: عادل الجبوري
مسيرة طويلة امتدت لأكثر من خمسين عامًا، كانت حافلة بكل صور البذل والتضحية والعطاء العلمي والفكري والجهادي والسياسي والانساني، لتتكلل بالشهادة في بقعة شريفة مباركة عند مرقد أمير المؤمنين علي بن أبي طالب عليه السلام في مدينة النجف الأشرف.
إنها مسيرة شهيد المحراب اية الله العظمى السيد محمد باقر الحكيم (1939-2003). وليس غريبًا لمن ولد ونشأ وترعرع في أجواء ومناخات العلم والفضيلة والبساطة والزهد والتقوى، وفي كنف المراجع الكبار، كوالده المرجع الكبير الإمام السيد محسن الحكيم، ورفيق دربه وأستاذه آية الله العظمى السيد الشهيد محمد باقر الصدر (قدس سرهما الشريف)، أن يكون عالمًا كبيرًا، وفقيهًا بارزًا، وأستاذًا فذًا، ليساهم في رسم مسارات علمية مهمة، ويؤسس لمناهج وأفكار ونظريات مميزة، ابتداءً من الجامعة مرورًا بالحوزة العلمية الى فضاءات المحافل والمنتديات والمؤسسات الفكرية والثقافية والدينية المختلفة.
وربما كان الشهيد السيد محمد باقر الحكيم واحدًا من القلائل الذين جمعوا بين النشاط العلمي والفكري والسياسي والجهادي منذ نعومة أظفاره وحتى استشهاده بجوار الحرم العلوي الشريف، في صيف عام2003. هذا الجمع والتكامل بين المجالات والعناوين المختلفة، جعل من شهيد المحراب حاضرًا ومؤثرًا وفاعلًا في كل المواقع والأزمان، وفي كل الميادين والمحافل والساحات، وترك بصمات مهمة وشاخصة، تجلت وتبلورت بصيغة نظريات وأفكار ومواقف وأدوار على مدى نصف قرن من الزمان.
فهو في الوقت الذي كان يتحرك فيه ميدانيًا كممثل لوالده المرجع الحكيم في العديد من الفعاليات والنشاطات الثقافية والاجتماعية، كان حاضرًا في المحافل والأوساط الفكرية والثقافية، كأستاذ جامعي متخصص بعلوم القران، وباحثًا وكاتبًا ومفكرًا في فضاءات الشهيد السيد محمد باقرالصدر، ومن ثم متصديًا للتحرك الجهادي، الذي أدى به الى المعتقلات في أكثر من مرة، وفوق ذلك حكم عليه بالإعدام ليتم تخفيفه لاحقًا الى السجن المؤبد بسبب قيادته لانتفاضة صفر عام 1977.
وفي المهجر، وعلى امتداد ما يقارب الربع قرن، لم يترك الشهيد الحكيم مجالًا وميدانًا إلا وتحرك فيه، اذ انه الى جانب تصديه للعمل السياسي المعارض، اهتم كثيرًا بإنشاء المؤسسات والمراكز الثقافية والدينية والاجتماعية والإنسانية والخدمية، التي كان لها دور كبير في تنظيم الوجود العراقي في المهجر.
وكانت المرجعية الدينية والحوزة العلمية والعشائر العراقية، مفردات حاضرة دومًا في منهج وتحرك وخطاب شهيد المحراب، باعتبارها تمثل أطرًا ومرتكزات ومنطلقات أساسية لعموم العمل السياسي والجهادي والفكري والثقافي والاجتماعي، وارتبطت بطبيعة المجتمع العراقي ومنظوماته الثقافية.
ولم ينطلق الشهيد الحكيم في ذلك من فراغ، وإنما استند إلى إرث تاريخي جهادي عريق، وقيم وأعراف متجذرة في بنية المجتمع العراقي، ومن تقدير وتقييم موضوعي ودقيق للواقع وللثوابت الدينية والوطنية والاجتماعية.
وتجلت مصاديق ذلك بوضوح أكبر بعد عودته الى العراق، وتصديه بقوة وشجاعة لكل المظاهروالسلوكيات والممارسات السلبية لقوات الاحتلال، والتي على ما يبدو أنها ساهمت بشكل أو بآخر في التخطيط للتعجيل بتصفيته وتغييبه عن المشهد، فهو في آخر خطبة سياسية له من على منبر صلاة الجمعة في الصحن الحيدري الشريف بمدينة النجف الأشرف، في الأول من شهر رجب من عام 1424 هـ.ق، قال "إن قوات الاحتلال الأميركي والبريطاني تتحمل مسؤولية انعدام الأمن والاعتداءات التي تحصل على مراجع وعلماء الدين والأماكن المقدسة". وكان يتناول بالشرح والتحليل ملابسات محاولة اغتيال المرجع الديني الكبير آية الله العظمى السيد محمد سعيد الحكيم التي وقعت قبل بضعة أيام من ذلك اليوم.
هذه القراءة الدقيقة للشهيد الحكيم حول الواقع القائم عبرت عن نفسها بكل وضوح بعد أقل من ساعة عندما خرج من الحرم العلوي الشريف محاطًا بأعداد كبيرة من المصلين، وإذ بيد الغدر الآثمة تمتد إليه والى العشرات من الأبرياء، في مشهد دموي إجرامي، تكرر عشرات المرات فيما بعد، في ظل وجود قوات الاحتلال بمختلف مدن ومحافظات العراق.
ولأن الأمور بخواتيمها -كما يقال - فإن الصفحة الأخيرة لمسيرة الشهيد الحكيم اختزلت واختصرت ذلك السجل الحافل بالكثير من الصفحات المشرفة والمشرقة في شتى المجالات والميادين.. إنها اختزلت واختصرت مسيرة شعب وأمة في رجل!
إقرأ المزيد في: آراء وتحليلات
23/11/2024