آراء وتحليلات
المنظمات غير الحكومية في لبنان: من الحقوق المدنية الى التدخل الأجنبي
مريم كرنيب
تشكل المنظّمات غير الحكومية أو ما يعرف بـمنظمات المجتمع المدني "NGOS" الأداة النموذجية للحراكات المدنيّة التي جذبت الشعوب والمواطنين حول العالم، من كل الشرائح والمستويات الإجتماعية، ولا سيما الشباب وطلّاب الجامعات، وعملت على استيعابها وتعبئتها بالاعتماد على سلسلة من الأنشطة والبرامج الخاصّة والممولة، يديرها وينفذها ناشطون متخصصون بهدف تنظيم شأنهم العام، وإصلاحه، ومكافحة ظواهر الفساد، واستبداد السلطات، وترهل النخب السياسيّة، وجمود الأحزاب الإيديولوجيّة في نموذج الدولة الحديثة.
في لبنان، تُعرّف الحكومة المنظمات غير الحكومية بأنها "مجموعة أفراد يصبَّون معارفهم ومواردهم من أجل الخير العام من دون توخي الربح الشخصي".
ينص القانون اللبناني على أن في استطاعة أي مجموعة تضم أكثر من ثلاثة أشخاص، يعملون معًا في نشاط معيّن لا يتوخى الربح الشخصي، أن تتسجّل كمنظمة غير حكومية، ليصل العدد حسب إحصاءات العام ٢٠١٥ الى ٨٣١١ منظمة مجتمع مدني مسجّلة لدى وزارة الشؤون الإجتماعية، وفي سجّلات وزارة الداخلية عن طريق العلم والخبر، ٢٨٪ منها سُجّلت في الفترة بين ٢٠٠٥ و ٢٠١٠.
وقد شهد لبنان والعالم العربي خلال السنوات المنصرمة تحوّل الكثير من هذه المنظمات من أدوات لها وظائف "تنمويّة مدنيّة مطلبيّة" بحسب التوصيف العلني لها، الى أدوات سياسية ميدانيّة انقلابيّة تدير "ثورات ملوّنة" تخدم الأهداف الأميركية. وهو ما اعترف به ديفيد هيل خلال جلسة استماع في الكونغرس الأميركيّ، واعترف به ديفيد شينكر وجيفري فيلتمان في مقابلات إعلامية وتصريحات علنيّة بعد انفجار مرفأ بيروت في ٤ آب/أغسطس ٢٠٢٠.
ولطالما واجهت دول عديدة سابقًا هذه الظاهرة الشديدة الخطورة، والمتمثلة بغزو المنظمات غير الحكومية لكل جوانب الحياة السياسية والإعلامية والاقتصادية والأمنية بتمويل وتوجيه من دولة أجنبية معادية بغطاء "ديمقراطي"، مثل مصر بعد الثورة، حيث وضعت أكثر من ٤٠٠ منظمة غير حكومية تحت التحقيق. وفي هذا السياق، يؤكد الباحث باتريك هانينغستن أنه "في العقود الخمسة السابقة، عملت وكالة الاستخبارات المركزية الأمريكية، بشكل غير مكشوف تقريبًا، في حين أنّها تتحرك تحت غطاء المنظمات غير الحكومية مثل USAID".
في لبنان بدأ تكاثر وظهور المنظّمات غير الحكوميّة وصعود دورها في الحراكات المدنيّة والاحتجاجات عام ٢٠٠٥ ( ما سمّي بثورة الأرز التي أنتجت ١٤ آذار)، وفي "حراك" عام ٢٠١٥ الذي انفجر على خلفية قضيّة مطامر النفايات، وصولًا الى حراك ١٧ تشرين الأول العام ٢٠١٩ (تحت شعار لبنان ينتفض لإسقاط شرعيّة النظام والانقلاب على نتائج انتخابات ٢٠١٨ تحت ذريعة الفشل الحكوميّ والانهيار الاقتصادي والمالي وتفشي الفساد).
تجدر الإشارة الى أن بنية هذه المنظّمات قد تطورت في لبنان من إرساليات وجمعيات من جنسيات مختلفة، وتحوّلت مع تطور الغرب نفسه، وانتقاله إلى التبشير الحداثي والعلماني والليبرالي بالقيم الإنسانية والعقلانية والديمقراطية.
يؤرخ البعض لتطوّر وتوسّع منظّمات المجتمع المدني في لبنان بثلاث مراحل:
الأولى: مرحلة ما بعد الحرب الأهلية أي ما بعد اتفاق الطائف لغاية العام ٢٠٠٥.
الثانية: مرحلة العام ٢٠٠٥ (ما يسمى بثورة الأرز)
الثالثة: مرحلة ما بعد العام ٢٠٠٦ ولغاية العام ٢٠١٩.
ويرى الدكتور في الجامعة اللبنانية "كرم كرم" أنّ "المنظّمات غير الحكومية اللبنانية كانت في مرحلة التسعينيات الفاعل الأكبر على ساحة التحركات الاجتماعية في لبنان، والتحرك الاجتماعي هذا ليس شاملًا، فهو من دون مرتكزات سياسية أو اقتصادية ويهتم بحقوق المرأة وحقوق الإنسان والبيئة والزواج المدني والانتخابات المحلية والتنمية المحلية وقضايا الشباب.
ويعتبر "كرم" أن مرحلة الالتحاق السياسي للمنظّمات غير الحكومية بدأت عام ٢٠٠٥، ليكون التحوّل الكبير الى الخط الانتقالي ومرحلة "التسييس" الكامل والعلني بعد العام ٢٠١١.
أما حراك ٢٠١٩ فجاء ليعزز هذه العلاقة والارتباط مع الأجندة الأمريكية من خلال التصريحات والرهانات العلنية الأمريكية عليه، لتبرز التساؤلات المرتبطة بجدوى بقاء العناوين الكلاسيكية لعمل المجتمع المدني بعدما تحوّلت وظائفها لتكون ضمن إطار أو أهداف سياسية تريد تغيير طبيعة النظام اللبناني، ونقله من "طائفي" الى "مدني" وفق النماذج الأميركية والغربية، وبتوجيه وتأثير وتمويل من قوى محلية وسفارات ومنظمات إقليمية ودولية (منها ما كشفت عنه وثائق ويكليكس، وصولًا الى حضور ومشاركة ممثلين من ٦٠ منظمة غير حكوميّة لبنانية بلقاءات مع أركان السفارة الأميركية في عوكر في العام ٢٠١٥ والى الآن).
وفي هذا السياق يمكن تسجيل مجموعة من الملاحظات، على سبيل المثال لا الحصر، للتناقض الحاصل بين عناوين وشعارات المشاريع وحقيقة العمل على الأرض:
1- "التنمية" ومحاربة الفقر:
التنمية ومحاربة الفقر هي من العناوين الأولى للمنظمات غير الحكومية، التي تستهدف بالدرجة الأولى الفئات المهمشة وتقديم برامج لدعم قرى الأطراف النائية إضافة الى الشباب وتأمين فرص العمل لهم عبر تعزيز أساليب كسب الرزق. لكن ما ثبت في التجارب الأخيرة أنه غالبا ما تتخفى السياسات الكبرى للتنمية خلف "الشعارات ـ البرامج" أو الكلمات الطنانة الأكثر غموضًا (الحوكمة الرشيدة، المشاركة، الشفافية، المجتمع المدني...).
وأحد الأمثلة على الوجه الآخر لهذا العنوان، وقبل حراك ٢٠١٩ بأشهر قليلة، مشاركة وكالة التنمية الأميركية مع المصارف والبنوك اللبنانية في عملية توسيع مشروع سابق للوصول الى "خدمة السكان في المناطق النائية" سواء عبر القروض الميسرة أو الهبات، مما أثار التساؤل حول الأهداف الحقيقية لهكذا تغلغل في كافة أوجه ومفاصل المجتمع.
2- تعزيز الديمقراطية:
في المرحلة الأساسية من طفرة المجتمع المدني وصعود دوره، كان التركيز على البرامج المرتبطة بالتمكين للديمقراطية وتعزيز دولة القانون والمواطنية، والحكم الراشد ودور المجتمع المدني في تعزيز حقوق الانسان والقيم الديمقراطية على الصعيد القطري والعالمي.
اذا تتبعنا أسماء وبرامج المنظمات غير الحكومية العاملة في لبنان نجد عنوان الديمقراطية وما يتبعها يتردد بشكل كبير تحت مسميات مختلفة (رواد الديقراطية/ رواد ورائدات الغد/ وقف الديمقراطية/ الحرية للبنان/ تعزيز الحوار بين الشباب/ من أجل ديمقراطية الانتخابات...) ليتبين أن الديمقرطية المنشودة هي في إعداد جيل جديد من طلبة الجامعات والأكاديميين والمثقفين الذين يؤمنون بالتغيير الذي تنشده فقط الإدارة الأمريكية على قياس ديمقراطيتها الملتبسة.
وهنا إشارة عامة في سياق الحوكمة الرشيدة، مثلا، حيث تظهر مشاركة "المجتمع المدني"، في الحياة العامة، على أنها توسيع لمجال الديمقراطية، بيد أن هذه المشاركة تحلُّ في الواقع مكان السيادة الشعبية وانتخاب المواطنين. إن المفارقة الكبرى في موضوع الحوكمة هي أنه يُطلب منا توسيع الديمقراطية لتشمل "المجتمع المدني" في حين أنه هو بالضبط مجموعة العلاقات التي لا يكون الأفراد فيها مواطنين.
3- ترويج الخصخصة والمساهمة في "إضعاف وتفكيك الدولة"
كثيرا ما تتجاهل المنظمات غير الحكومية الدولة وتحل مكانها (كما جرى بعد حادثة المرفأ حيث عمدت هذه الجمعيات الى التعامل المباشر مع المتضررين بحسب زعمها لتقديم المساعدات مع أن هؤلاء لا زالوا الى اليوم يشكون من عدم الحصول على مساعدات). بعض هذه المنظمات التربوية أو الصحية أو التنموية أو البيئية أو منظمات الرعاية الاجتماعيّة تميل الى الحلول كليًا او جزئيًا مكان الدولة، وذلك بتواطؤ مع الدولة بالذات (أحزاب الطبقة المسيطرة في البرلمان والحكومة) التي لا تتردد في تمويلها للقيام بمشاريع واسعة النطاق، وذلك مع فارق جوهري، هذا المنظمات غير ملزمة رسميًا بالاستجابة الى حاجات ومطالب المواطنين، كما لا يمكن للمواطنين الاعتراض عليها. وكما أن هناك "سوقا سوداء" أصبحت هذه الجمعيّات أجنة لدولة موازية، هي "دولة سوداء". وبطبيعة الحال تميل هذه الدولة لخدمة الطبقات السائدة وأحزابها في السلطة وتتجاهل مصالح الطبقات الفقيرة.
4- حقوق المرأة:
انطلاقًا من هيكليات تمويل المنظّمات المحلية يتبين أنّ هناك أنواعًا مختلفة من الجهات المانحة في مجال القضايا النسوية، وبشكل أساسي وكالات الأمم المتحدة، والسفارات الأوروبية، والمؤسسات الدولية، فضلًا عن المنظّمات غير الحكومية الدولية، وشركات القطاع الخاص الأجنبية (مثال شركة روش للصحة) وشركات خاصة لبنانية، مما يفتح المجال للسؤال الأساسي: الى أي مدى تساهم توجهات التمويل في تحديد ملامح تصميم المشاريع على المستوى المحلي؟ ومن يحدد القضايا الأساسية التي تتصدى لها هذه المنظمات غير الحكومية؟
ويأتينا الجواب من بعض الدراسات التي أظهرت أن العديد من المنظمات غير الحكومية العاملة في مجال المساعدات التنموية فقدت استقلالها التشغيلي والسياسي نتيجةً لاعتمادها على المانحين على مستوى الدول، وأصبحت وكالات لتنفيذ سياسات هذه الدول.
ونختم بما تؤكده هذه الدراسة تحت عنوان "لمحة عامة عن الأطراف الفاعلة في مجال الجندر وتدخلاتها في لبنان"، نشرها مركز دعم لبنان Support Lebanon وهو أحد المراكز المتخصصة بدراسات المجتمع اللبناني وهو مموّل دوليّا، ففي قراءة لمضمون واستنتاجات الدراسة يعترف مدير إحدى المنظّمات غير الحكومية الـ NGOs في التقرير بـ"أن نموذج الإدارة الحالية للمنظّمات أشبه بنموذج إدارة الأعمال التجارية: أي البحث أولا عن مصدر تمويل ثم العمل على تنفيذ المشروع".
القضية إذاً.. سياسة وأهداف المموّل!
إقرأ المزيد في: آراء وتحليلات
21/11/2024
خطاب الأمين: قوةٌ وتمكين ونصرٌ وتطمين
19/11/2024