آراء وتحليلات
المعركة بالتوقيت الإيراني لا الإسرائيلي
شارل أبي نادر
يتساءل كثيرون لماذا "تصبر ايران" على الاستفزازات الاسرائيلية التي تتجاوز فيها الحد المعقول، لتبدو أقرب الى اعتداءات، في الوقت الذي تملك فيه طهران كل المقومات التي تؤمن لها القدرة على الوقوف موقف الند للند بمواجهة "اسرائيل"؟ تصاعد مستوى الاستفزاز الاسرائيلي مؤخرًا، وبدأت امكانية المواجهة المباشرة ترتفع، ووصل الاشتباك بين الطرفين الى مستوى غير مسبوق، بعد أن تجرَّأ الكيان الاسرائيلي على تنفيذ عملية تخريب ارهابية واغتيال أحد أهم خبراء النووي الايراني الشهيد محسن فخري زادة.
في الواقع، يدرك الجميع أن لايران القدرة العسكرية والالكترونية والسيبرانية على مقارعة الكيان الاسرائيلي، على الأقل بالحد الأدنى الذي يجعل مواجهته متكافئة الى حد كبير، ومستوى القدرات الايرانية، أكثر من يعلمه هم الاسرائيليون والأميركيون، حيث يتابعون تطور هذه القدرات استخباريًا والكترونيًا بشكل مفصل، وأساسًا، لو كانوا يعتبرون أن ايران غير قادرة على مواجهتهم، ولا تشكل خطرًا جديًا على وحداتهم العسكرية ومصالحهم ومنشآتهم الاستراتيجية (على الأقل الاسرائيلية داخل فلسطين المحتلة)، كانوا ابتعدوا عن هذه الاستفزازات والاشتباك الخطر والحساس، وكانوا التزموا سياسة هادئة ضد طهران، مبتعدين عن تشنج وتوتر واستنفار لا لزوم له.
انطلاقًا من ذلك، على ماذا تقوم استراتيجية كل من "تل ابيب" وطهران في هذه المواجهة والاشتباك الحساس؟
استراتيجية الكيان الاسرائيلي
تقوم استراتيجية "اسرائيل" في هذه المواجهة الحساسة ضد ايران على أكثر من نقطة، يمكن تلخيصها بالتالي:
"اسرائيل" تريد أو تسعى الى مواجهات منعزلة أو مستقلة وغير واسعة، تقوم على استهدافات نوعية لقادة أو لمنشآت أو لمواقع ايرانية محددة، وهي وبكل موضوعية تتفوق في هذه المواجهات، حيث تملك قوة جوية ضاربة من أكثر القدرات العالمية تطورًا وحداثة مع امكانيات كاسحة ومدمرة، بأساسها قاذفات الجيل الخامس الشبحية اف 35 ، وربما اف 22، والقادرة على التعامل مع أهداف بعيدة مئات الكيلومترات بصورايخ موجهة وقنابل ذكية، لا تخطىء أهدافها.
نقطة ضعف "اسرائيل" في أية مواجهة، هي عمقها الهش جغرافيًا ومدنيًا، حيث تتداخل منشآتها الحيوية، من عسكرية واستراتيجية، مع أماكن استيطانية وتواجد المستوطنين، ومع المنشآت الاستيطانية الأساسية والضرورية لاستمرار الحياة فيها، و"اسرائيل" مقتنعة بشكل كامل، أنها غير قادرة - حتى الان - أن تحمي هذه المنشآت أو تبعد عنها الخطر ولو بنسبة معقولة، لذلك ستكون المواجهة الواسعة ضد محور المقاومة، قاتلة ومدمرة لها، انطلاقًا على الأقل من الخطر المحتم المحدق بعمقها المدني والحيوي.
أيضًا، تقوم استراتيجية "اسرائيل" في التحرش بايران واستفزازها، على المناورة ضمن هامش النقاط التي تشترك فيها مع الولايات المتحدة الاميريكة في التصويب على ايران، ومحور هذه النقاط هو الموضوع النووي، لناحية رفع نسبة تخصيب اليورانيوم أو توسيع وزيادة المنشآت الأساسية لتصنيع اية قنبلة نووية، فتذهب "تل ابيب" تحديدًا الى استفزاز ايران ضمن هذا الهامش، كاغتيال عالم نووي أو كاستهداف منشآت نووية، الأمر الذي يؤمن رضى أميركيًا، على عكس ما يمكن أن تذهب فيه الأمور في المواجهة الواسعة، حيث لا تريد حتمًا واشنطن أن تكون "اسرائيل" هي المقررة في ذلك، بل تريد ان يكون القرار في ذلك قرارًا أميركيًا، وهذا غير متوفر حاليًا، خصوصًا مع ادارة الرئيس بايدن، والذي يجهد لايجاد ثغرة يعود من خلالها الى الاتفاق النووي دون أن يظهر مُتراجعًا في مواقف دولته.
استراتيجية ايران
تمامًا على عكس الكيان، تقوم مناورة ايران في مواجهة الصهاينة، على الابتعاد قدر الامكان عن المواجهات المنعزلة والمحدودة، والتي تعتبر انها ستكون لصالح قدرات "اسرائيل" الجوية، وهي (طهران) تفضل أو ترتاح للمواجهة الواسعة أو الشاملة، والتي تستطيع من خلالها التاثير الأكيد على العمق الاسرائيلي، والذي يشكل نقطة الضعف الواضحة لدى الكيان.
من عناصر ايران القوية أيضًا في استراتيجيتها بمواجهة "اسرائيل"، أنها تراكم القدرات النوعية والأسلحة الاستراتيجية من صواريخ باليستية ومجنحة وطائرات مسيرة ومنظومات دفاع جوي وقدرات بحرية متقدمة. وهذا التراكم للقدرات النوعية، الذي تكمن أهميته في أنه عامل ردع استراتيجي بعيد المدى، يحتاج لفترة ترقب وحذر وصبر من خلال العمل الهادىء والدقيق، بعيدًا عن المواجهات المنعزلة أو الفردية، والتي سوف تؤخر حتمًا أو تعيق هذا المسار التراكمي لقدرات الردع.
أيضًا، تقوم استراتيجية ايران في هذه المواجهة، على الاحتفاظ قدر الامكان بعنصر القانون الدولي، والذي كان دائمًا الى جانبها، نقصد هنا القانون كقانون ومبادىء ومفاهيم، وليس طبعًا الواقع الذي يعمل من خلاله حاليًا المجتمع الدولي ومؤسساته، والتي فقدت دورها ووجوب التزامها بتطبيق القانون الدولي، لذلك تراهن ايران دائمًا على تلك المفاهيم والقوانين الدولية، وتحاول قدر الامكان الالتزام بها في علاقاتها الدولية، بالاضافة طبعًا الى تطوير وتحصين قدراتها الذاتية الاستراتيجية.
لذلك، من غير المنطقي أن تذهب اليوم ايران الى مواجهة بالتوقيت الذي تختاره "اسرائيل"، وبالظروف التي تخدم استراتيجية الأخيرة، وسيكون من غير الطبيعي أن تتخلى الآن ايران عن مناورة "الصبر الاستراتيجي"، بعد أن أصبحت تقريبًا في نهاية الطريق الذي تحملت فيه الكثير، لتصل الى ما وصلت اليه اليوم، أولًا في موقعها الاستراتيجي عسكريًا، وثانيًا في موقفها القوي على الصعيد الدولي، والذي جعل "اسرائيل" وبعض الدول المطبعة معها، يبحثون عن أية فرصة من الممكن أن تؤدي الى إضعاف هذا الموقع الايراني القوي، عبر زيادة منسوب الاستفزازات ضد ايران.
إقرأ المزيد في: آراء وتحليلات
21/11/2024
خطاب الأمين: قوةٌ وتمكين ونصرٌ وتطمين
19/11/2024