معركة أولي البأس

آراء وتحليلات

أزمات ماكرون
12/10/2020

أزمات ماكرون "رئيس الأثرياء"

إيهاب شوقي

التحركات الفرنسية في المنطقة، والتي نشطت لدرجة تصدّر فرنسا عناوين الملفات الشائكة والمعقدة، من حيث الشكل، ووصلت لارسال فرنسا قوات واسلحة وبدت على حافة مواجهات، خاصة في شرق المتوسط، من حيث المضمون، لا تعكس فائضا للقوة الفرنسية بقدر ما تعكس فراغا خلفه التراجع الامريكي، كما تعكس اوضاعا داخلية فرنسية اكثر مما يمكن اعتباره تغيرا جيو-استراتيجيا في الاقليم.

ولمزيد من التوضيح، فإن خطاب ماكرون الأخير حول "الاسلام السياسي" والذي أثار جدلًا واستياء كبيرًا داخل أوساط المسلمين في داخل فرنسا وخارجها، لم يكن منفصلا عن تمرير الاساءات التي جددتها صحيفة شارلي ابدو تجاه النبي الاكرم، بدعوى حرية التعبير، وليس بالضرورة ان يعكس ذلك موقفا ايديولوجيا من ماكرون العلماني، وانما هو تعبير عن ازمة انتخابية داخلية، تستبق انتخابات يسعى ماكرون بها لمغازلة اليمين المتطرف، بعد استطلاعات تفيد بتقارب بينه وبين زعيمة اليمين المتطرف.

وكما يقول اوليفييه روي، الباحث في الدين والأستاذ بمعهد الجامعة الأوروبية في فلورنس، فإنه على مدار 20 عامًا، حاول الرؤساء أخذ الأصوات من الجبهة الوطنية، في إشارة إلى الحزب اليميني المتطرف الذي غير اسمه في 2018 إلى التجمع الوطني، مضيفا انه في الأشهر القليلة الماضية، ضاعف ماكرون من جهوده في قضايا الأمن والهوية، على أمل جذب ناخبين ذوي ميول يمينية قبل انتخابات 2022، حيث من المتوقع أن يواجه زعيمة اليمين المتطرف مارين لوبان، راصدا ان الاثنين متقاربان في استطلاع حديث.

وعلى مستوى المنطقة، فإن التحركات الفرنسية معبرة ايضًا عن أزمة اقتصادية داخلية، تهدف فرنسا من خلالها الى معالجة قضايا باتت تتعلق بصميم الامن القومي الفرنسي، يمكن تلخيصها في ثلاث قضايا رئيسية تندرج تحتها العناوين الفرعية وتفسيرات السياسات والتصريحات، وهي قضايا اللاجئين والطاقة ومواجهة تركيا ونفوذها في المناطق الحيوية الفرنسية.

وكما يقول ستيفن ايه كوك، في مقال له بمجلة فورين بوليسي الامريكية،  فإن حسابات ماكرون في ليبيا استندت إلى حسابات باردة مفادها أن حفتر يمكن أن يكون الرجل القوي الذي تحتاجه فرنسا للحفاظ على تماسك ليبيا وبالتالي منع الليبيين والأفارقة الآخرين من الوصول إلى جنوب أوروبا، وان اللاجئين هم أيضًا ما يقود الفرنسيين في لبنان جزئيًا، ورغم الحنين للماضي الاستعماري في لبنان، لكن جزءًا من هذه المشكلة هو احتمال ظهور شتات لبناني جديد في أوروبا، وخاصة انه منذ وقت ليس ببعيد، عصفت موجة من  اللاجئين السوريين بالسياسة الأوروبية وساهمت في نجاح الأحزاب القومية اليمينية والنازية الجديدة في مجموعة متنوعة من البلدان. وبالتالي فإن ماكرون يريد تجنب موجة جديدة من اللاجئين، خاصةً أنه يواجه إعادة انتخابه في عام 2022 في مواجهة اليمين المشار اليه.

ويرصد الباحثون ايضًا ما يكمن تحت ليبيا والعراق ومياه لبنان وقبرص من ثروات. ويقول كوك في نفس المقال انه لهذه الاسباب، تعمل شركة الطاقة الفرنسية "توتال" في ليبيا منذ ما يقرب من سبعة عقود. في العراق، تمتلك نفس الشركة حصة 22.5 في المائة في كونسورتيوم يدير حقل حلفايا النفطي ولديها حصة 18 في المائة في منطقة استكشاف في إقليم كردستان. كما تشارك في التنقيب عن الغاز قبالة الساحل الجنوبي لقبرص، والذي يقع بجوار المياه اللبنانية مباشرةً، حيث يُعتقد أيضًا أن هناك كميات وفيرة من موارد الطاقة.

أما بخصوص تركيا، فإن المسؤولين الفرنسيين يرون أن الاتحاد الأوروبي يجب أن يكون ناديا من البلدان ذات الغالبية المسيحية المتوافقة مع جغرافيا محددة، يضاف إلى هذه المشاكل نهج تركيا العدواني تجاه شرق البحر الأبيض المتوسط وشمال إفريقيا والمشرق العربي، حيث التنقيب عن الغاز قبالة قبرص يهدد أحد أعضاء الاتحاد الأوروبي والمصالح التجارية الفرنسية، كما يتعارض دعم أنقرة للحكومة في طرابلس مع رغبة فرنسا في احتواء اللاجئين ويعقّد جهودها لمحاربة المتطرفين في منطقة الساحل المجاورة.

من هنا يمكن قراءة تحركات ماكرون وتصريحاته، والتي تعكس أزمة تطال الغرب كله، من حيث تراجع النفوذ والقوة بعد بروز انياب روسية عسكرية، وانياب صينية اقتصادية، وبروز المقاومة كحائط صد امام افتراس المنطقة، مما يجعل الغرب يعتمد بشكل شبه كلي على الصراعات وتأجيجها لبيع الاسلحة، والاعتماد على الانظمة التابعة لحفظ المصالح الغربية والتعاون مع الغرب على حصار المقاومة واستهدافها.
كما يعاني الغرب من ازمات بنيوية داخلية تشكل تناقضا بين الدعاوى العلمانية والديمقراطية والتي يحاول المناداة بفرضها تارة وبمحاولة فرضها بالقوة تارات، وبين ممارساته الداخلية والتي تتناقض مع هذه الديمقراطيات!

وعندما نأخذ فرنسا مثالا، فإن خطة ماكرون تركز على الحد من النفوذ الأجنبي والاستثمار في جيل جديد من الأئمة الفرنسيين. ولأن العلمانية تمنع الدولة من التدخل في الشؤون الدينية، فقد اعتمدت فرنسا على ما يعرف باسم "الإسلام القنصلي" لإدارة المؤسسات الإسلامية، حيث تمول الجزائر المسجد الكبير في باريس، الذي يوزع الأموال على المساجد التابعة في جميع أنحاء البلاد، كما صدرت تركيا والجزائر والمغرب أئمة إلى فرنسا، وفي عام 2015، وقع الرئيس آنذاك فرانسوا هولاند صفقة مع النظام الملكي المغربي لتدريب الأئمة الفرنسيين في مركز بالرباط، واستثمرت تركيا، على وجه الخصوص، في المنظمات الدينية والثقافية في جميع أنحاء فرنسا، ولا سيما في عهد الرئيس رجب طيب أردوغان.
وتفيد التقارير بأن مرتكبي الغالبية العظمى من الهجمات لم يكونوا من المتسللين الأجانب، بل كانوا مواطنين فرنسيين، وكان لهم في الغالب تاريخ من الجرائم الصغيرة أكثر من التعصب الديني. كثير من الإرهابيين المحتملين متطرفون عبر الإنترنت أو خارج البيئات الدينية، وقد أشار الخبراء باستمرار إلى السلفية العنيفة التي نشأت محليًا والتي لن يؤدي إغلاق الحدود الفرنسية في وجه الأئمة الأجانب إلا القليل لحلها.

وهذا يعني أن دول الغرب ومنها فرنسا، تدفع ثمن رعايتها للارهاب لمواجهة خصومها من قوى المقاومة، كما تدفع ثمن تحالفها مع رعاة الارهاب من الدول الخليجية المصدرة للفكر التكفيري، ويقوم ماكرون الآن بالتعميم على الاسلام كدين لمداراة سوءات حكومات فرنسا والغرب المتلاحقة بدعم الارهاب ورعاته!

حصل ماكرون على لقب "رئيس الأثرياء" بفضل أجندته المؤيدة للأعمال التجارية وقراره بإلغاء ضريبة الثروة، واهماله للضواحي، وهو ما يبعده عن أصوات اليسار، وبالتالي فإن ماكرون مهتم أكثر بجذب الناخبين على اليمين أكثر من اهتمامه على اليسار ولهذا يتوقع منه التمادي في سياسات يمينية قد تصل للتطرف، وهو ما يفسر ما أخذه عليه المراقبون من تحفظات ملخصها أن ماكرون لا يرى الا نفسه.

إقرأ المزيد في: آراء وتحليلات

خبر عاجل