آراء وتحليلات
تركیا تشعل حرب القوقاز انطلاقا من آذربیجان وأرمینیا
سركيس ابوزيد
اهتز الاستقرار في منطقة جنوب القوقاز، وھي ممر لخطوط الأنابیب التي تنقل النفط والغاز إلى الأسواق العالمیة. وقعت مؤخرا مواجھات عنیفة بین الجیش الآذربیجاني ووحدات أرمینیة في منطقة ناغورني قره باغ، أدت إلى سقوط عسكریین ومدنیین من الجانبین، في أعنف اشتباكات بین أرمینیا وآذربیجان منذ العام 2016، ما یجدد المخاوف بشأن احتمال اندلاع حرب واسعة النطاق بین آذربیجان وأرمینیا اللتین انخرطتا على مدى عقود في نزاع للسیطرة على ناغورني قره باغ. ومن شأن اندلاع مواجھة من ھذا النوع بین البلدین الجارین في القوقاز، واللذین كانا ضمن الاتحاد السوفیاتي السابق، أن یدفع القوتین الإقلیمیتین، روسیا وتركیا، إلى التدخل، وھو ما ظھرت إشاراته، بالفعل، عبر التصریحات التصعیدیة التي أطلقھا الرئیس التركي رجب طیب إردوغان، والتي تزامنت مع تقاریر عن إرساله مرتزقة من سوریا إلى آذربیجان للمشاركة في القتال.
وقد افادت مواقع أن مسلحین من فرقة "السلطان مراد ـ الجیش الحر"، الموالیة لتركیا، یستعدون للذھاب برفقة مسلحین تركمان إلى أذربیجان للقتال ضد الأرمن إلى جانب الأذریین، وأن القوات التركیة جھّزت مسلحين من كتائب التركمان وفرقة السلطان مراد في مدینة عفرین لإرسالھم إلى أذربیجان، وتعرض على كل فرد من المسلحین المنوي نقلھم إلى أذربیجان مبلغا مالیا بقیمة 2500 دولار أمیركي.
یعود النزاع الآذربیجاني - الأرمیني إلى بدایة القرن الماضي، عندما ألحقت السلطات السوفیاتیة ناغورني قره باغ، الذي تسكنه أغلبیة أرمینیة، بآذربیجان، عام 1921. أعلن استقلال الاقليم عام 1991 بدعم من أرمینیا، لتلي ذلك حرب أدت إلى مقتل 30 ألف شخص ونزوح مئات الآلاف.
سیطرت القوات الأرمینیة على ستة أقضیة آذربیجانیة في جوار الإقلیم، ما اضطر سكانھا، وعددھم حوالى ملیون، إلى الھرب إلى جوار العاصمة باكو، فیما تم ترحیل الآلاف من الأرمن الذین كانوا یسكنون في باكو ومدن أخرى إلى أرمینیا التي لا یزید عدد سكانھا على ثلاثة ملایین، مقابل تسعة ملایین ھم عدد سكان آذربیجان الآن.
فشلت جمیع المساعي الأوروبیة والروسیة والأمیركیة والأممیة، طیلة الفترة الماضیة، في التوصل إلى حل لمشكلة الإقلیم الذي كان یتمتع بحكم ذاتي داخل حدود آذربیجان في العھد السوفیاتي. ولم یحالف الحظ الأرمن في قره باغ في إقناع العالم بالاعتراف بھم ككیان مستقل أو في ضم إقلیمھم إلى أرمینیا التي تفتقر إلى الإمكانیات العسكریة والاقتصادیة التي تملكھا آذربیجان النفطیة المدعومة من تركیا.
بدأت أنقرة في السنوات الأخیرة بتسلیح الجیش الأذربیجاني، خاصة بالطائرات المسیّرة. وحرب الطائرات المسیّرة بین أذربیجان وأرمینیا بدأت قبل خمس سنوات، إثر شراء أذربیجان أسلحة ومعدات حربیة من "إسرائیل "، منھا طائرات مسیّرة متطورة من طراز "أربیت ھارمس" و"أوربیتار" و"ھاروب". وأقامت تل أبیب في المقابل قواعد أو مراكز عسكریة واستخباریة عدیدة في مختلف الأراضي الأذربیجانیة. استھدفت "إسرائیل" بذلك الجارة إیران لمراقبة كل التحركات العسكریة، وخاصة في المواقع النوویة شمال إیران وشرقھا القریبة من الحدود مع أذربیجان.
في المبدأ، كان یُنظر إلى العلاقات بین تركیا وأذربیجان على أن السكان فيهما شعب واحد في دولتین، والرابطة القومیة التي تجمعھما كانت أقوى من التباین المذھبي، الشیعي في أذربیجان والسنّي في تركیا. یُضاف إلى ذلك أن تركیا وأذربیجان تشكلان قاعدة قویة للمصالح الأمیركیة والأطلسیة، معطوفة على الوجود الاستخباري القوي لإسرائیل في أذربیجان ضد إیران. وإذا كانت بعض الأحزاب التركیة المعارضة تختلف مع الرئیس رجب طیب إردوغان في أكثر من ملف في السیاسة الخارجیة، غیر أنھا تلتقي معه في الوقوف، من منطلق قومي، مع أذربیجان.
تركیا، التي لا تلعب دورا مباشرا في اندلاع الاشتباك الأخیر، كانت السبّاقة إلى الاستثمار فیه، انطلاقا من أسباب عدیدة ولأھداف كثیرة. وقد تجسد ذلك في الأنباء عن إرسالھا مئات المرتزقة من سوریا إلى آذربیجان للقتال. وعلى رغم نفي حكمت حاجییف، مساعد رئیس آذربیجان للسیاسة الخارجیة، صحة ھذه الأنباء، إلا أن تقاریر سابقة أفادت بأن تركیا بدأت نقل مئات المرتزقة السوریین إلى حلیفتھا آذربیجان، إلى جانب إجراء مناورات عسكریة مشتركة مع باكو، وتھیئة الأرضیة لتأسیس قاعدة عسكریة تركیة ھناك قرب الحدود مع أرمینیا. یأتي ذلك بینما لا یزال الرئیس التركي رجب طیب إردوغان ماضیا في فتح جبھات جدیدة أمام بلاده، من دون أن یغلق أیًا منھا، بما یتماشى مع طموحاته التوسعیة.
وبینما یمثل التصعید التركي عبئا على الداخل حیث تتصاعد الأزمة الاقتصادیة، يتوقع محللون أن یكون تصرف أردوغان نابعا من حساباته الداخلیة الخاصة، المرتبطة بالمزایدة والتجییش القومیین، ولا سیما أن الشعب الآذربیجاني ینتمي، عرقیا، إلى الجنس التركي، وأن اللغة الآذریة تعتبر واحدة من أقرب اللغات إلى التركیة. وعلى ھذا الصعید، یشیر ھؤلاء إلى أن آذربیجان تُعد بالنسبة إلى تركیا جزءا مھما في عدد من التحالفات الصغیرة والكبیرة، التي تربط مكوناتھا معا أواصر الجغرافیا الثقافیة، مثل "المجلس التركي" الذي أنشئ عام 2009 لیضم عددا من الدول الناطقة بالتركیة، مثل قرغیزستان وتركمانستان وأوزبكستان وآذربیجان، و"التحالف الثلاثي"، شمال شرق الأناضول، الذي یضم آذربیجان وجورجیا إضافة إلى تركیا، و"التحالف السداسي" الذي یضم إلى جانب الثلاثي السابق إیران وباكستان وتركمانستان.
و
ستجد موسكو نفسھا في قره باغ وجھا لوجه مع أنقرة التي تتعارض معھا في الحسابات في لیبیا وسوریا، وبشكل خاص غربي الفرات حیث یرفض الجانب التركي الانسحاب من محیط إدلب وباقي المناطق. ویتوقع مراقبون أن لا یتأخر الجیش التركي في التدخل المباشر إلى جانب آذربیجان ذات الموقع الاستراتیجي في القوقاز وبحر قزوین، وعبرھما بالنسبة إلى آسیا الوسطى حیث الغاز والبترول في كازاخستان وتركمانستان. ویقول البعض إن إردوغان، بدوره، بحاجة إلى مثل ھذه الأزمات الساخنة التي ستساعده على إلھاء الرأي العام الداخلي عبر الشعارات القومیة والدینیة.. من جهة اخرى يوجد مصلحة لروسیا في توسیع جبھة الصراع ضد تركیا التي تضغط على روسیا في لیبیا وسوریا وشرقي المتوسط. قد لا تستطیع تركيا تحمل فتح عدة جبھات عسكریة دفعة واحدة، فتكون جبھة القوقاز ورقة مساومة بید روسیا تجاه تركیا ومن ورائھا الولایات المتحدة في الملف اللیبي. وهكذا نشهد مسلسل نزاعات متداخلة تمتد من القوقاز الى المتوسط والمشرق من اجل رسم خطوط الغاز وربما خرائط جديدة.
إقرأ المزيد في: آراء وتحليلات
21/11/2024
خطاب الأمين: قوةٌ وتمكين ونصرٌ وتطمين
19/11/2024