آراء وتحليلات
"تل ابيب" تطرق بوابات بغداد تحت جنح الظلام!
بغداد - عادل الجبوري
لا يمكن المرور بصورة عابرة على تصريح المتحدث العربي باسم خارجية الكيان الصهيوني حسن كعبية الذي أدلى به قبل بضعة أيام، وأفصح فيه عن فتح "تل ابيب" سفارة افتراضية لها في العراق، لأن مثل تلك الخطوة وإن لم يكن لها أثر واقعي وعملي آني على أرض الواقع، الا أنها تؤشر الى طبيعة وحقيقة المنهج الصهيوني في اختراق الشعوب والمجتمعات الأخرى، لا سيما تلك المعادية لذلك الكيان، فضلًا عن كونها تأتي من حيث التوقيت في خضم أجواء سياسية واعلامية منشغلة - سلبًا أو ايجابًا - بقدر ما بمبادرات وخطوات التطبيع العربي مع "تل ابيب".
وحتى تكون الصورة واضحة بالقدر الكافي، من المهم جدًا هنا، التنويه الى جملة حقائق ومعطيات، لعل من بينها:
-ان الكيان الصهيوني وحتى قبل ولادته المشوهة منتصف القرن الماضي، لم يترك وسيلة الا وتوسل بها من اجل ترسيخ وجوده وهيمنته، واختراق اعدائه وخصومه. وتنوع واختلاف الادوات والاساليب، انما ارتبط بتبدل الظروف والاحوال، والسعي الى استغلال كل ما هو جديد –عسكريا وثقافيا وفكريا- لتعزيز التفوق وتوسيع النفوذ، وللاسف نجح ذلك الكيان في تحقيق جزء كبير من اهدافه ومخططاته، لا لانه كان قويا جدا، وانما جاء ذلك بفضل دعم ومساندة القوى الدولية الكبرى له، وخنوع وتخاذل الكثير من العرب والمسلمين في مواجهته.
-الخطوة الاخيرة المتمثلة بفتح سفارة افتراضية للكيان الصهيوني في العراق، في اطار الاستفادة من التقنيات العلمية الجديدة، وذلك الفضاء الالكتروني الفسيح، ليست الاولى، ضمن ما يمكن ان نطلق عليه "الحرب الناعمة"، فقبل اكثر من عام انشغلت الاوساط والمحافل السياسية والثقافية في الكيان الصهيوني بمرور عام على انشاء صفحة على موقع التواصل الاجتماعي (فيسبوك)، تحت عنوان "اسرائيل باللهجة العراقية"، علمًا أن وزير خارجية الكيان "اسرائيل" كاتس كان هو صاحب المبادرة والمروج لها.
وفي حينه، تلقى الكثير من العراقيين مبادرة الوزير الصهيوني بقدر كبير من الاستهجان والسخرية، عبر العشرات من التعليقات والمنشورات، مؤكدين أن الكيان الذي يقتل يوميًا الفلسطينيين الأبرياء ويستبيح حرماتهم ومقدساتهم، لا يمكن حتى التفكير بالتصالح معه، معتبرين استغلال الفضاء الالكتروني ومواقع التواصل الاجتماعي لتسويق اأفكار التعايش والتصالح، أمر عبثي لا جدوى منه، لأن الحقائق والوقائع على الارض، تسير باتجاهات أخرى متناقضة. وقد تكرر التأكيد والتشديد على هذه المواقف المبدئية مرة اخرى بعد تصريحات حسن كعبية عن فتح السفارة الافتراضية.
ويعتقد أصحاب القرار في "تل ابيب"، ان العالم الافتراضي بما يوفره من حرية وبما ينطوي عليه من فوضى وغياب شبه تام للضوابط، يمكن ان يوفر لكيانهم نافذة كبيرة ومهمة لتحقيق اختراقات من الصعب بمكان تحقيقها عبر ادوات ووسائل وأساليب أخرى، وبكلف تكاد لا تذكر، وربما نجحوا في ذلك بمستوى معين في هذا البلد العربي - المسلم أو ذاك، دون أن يعني حصول تحولات وانقلابات في المواقف والتوجهات العامة الرافضة لسياسات التطبيع، ايًا كانت عناوينه ومسمياته ومبرراته.
- في الواقع لا تختلف مواقف العراق والعراقيين حيال القضية الفلسطينية قبل سبعين أو ستين أو خمسين عامًا عنها اليوم، باختلاف طرق ووسائل التعبير عن تلك المواقف، والظروف المحيطة، ولا يمكن لأي كان أن ينسى ويتناسى الموقف التاريخي الشهير للمرجع الديني الكبير الامام محسن الحكيم في عام 1966 بدعم واسناد الشعب الفلسطيني في نضاله ضد الكيان المحتل، ولعل استعراض مجمل المواقف يحتاج الى صفحات طويلة، حتى نصل الى المواقف الايجابية للمرجعية الدينية في النجف الأشرف بالوقت الحاضر، ازاء القضية الفلسطينية وما يتعرض له الشعب الفلسطيني من قمع واضطهاد صهيوني يومي يقابله صمت دولي وخنوع عربي.
-ان "تل أبيب" ومعها قوى أخرى، تراهن على الظروف والأوضاع الصعبة التي يعيشها العراق، والضغوطات الحياتية الكبيرة التي تتعرض لها فئات وشرائح عديدة من أبناء الشعب العراقي، لاسيما الشباب منهم، تراهن على ذلك، لتغيير الصورة النمطية في ذهنية المواطن العراقي عن الكيان الغاصب، مرة من خلال انشاء صفحات معينة على منصات التواصل الاجتماعي، ومرة عبر فتح سفارة افتراضية، يمكن ان تسوق من خلال أفكار وتصورات معينة وتقدم اغراءات ما، ناهيك عن الاستفادة من وسائل اعلام مرئية اجنبية وعربية تتبنى الترويج لذلك الكيان، وهي بلا شك ستحاول استثمار حالة التفكك والتشضي والاضطراب في العالم العربي، واندفاعات بعض الأنظمة والحكومات العربية نحو خيار التطبيع لتحقيق أكبر قدر من المكاسب والانجازات، وقد أفصح كعبية عن ذلك بوضوح من خلال قوله "ان اتفاق السلام بين الإمارات واسرائيل هو نقطة تحول في منطقة الشرق الأوسط، ونأمل بانضمام العراق إلى الدول العربية الأخرى التي وقعت اتفاقيات تطبيع مع اسرائيل"!.
هذه المبادرات والخطوات الاسرائيلية، التي يمكن وصفها باختراقات بائسة، أو طرقات في ظلمة الليل على أبواب بغداد، هي في حقيقة الامر الوجه الأول للصورة، التي يبدو أن وجهها الثاني يختلف تمام الاختلاف عن الاول، وهو ما يفهمه جيدًا ساسة "تل ابيب" ومنظروها ومفكروها، ويدركون أن الواقع لا تغيره ولا تقلبه صفحات تواصل اجتماعي، ولا سفارات افتراضية، ولا برامج تلفزيونية ترويجية، ولا حتى اتفاقيات "سلام" ومهرجانات تطبيع عقيمة.
إقرأ المزيد في: آراء وتحليلات
21/11/2024
خطاب الأمين: قوةٌ وتمكين ونصرٌ وتطمين
19/11/2024