معركة أولي البأس

آراء وتحليلات

الوعي المفقود في واقعة استجداء الانتداب
19/08/2020

الوعي المفقود في واقعة استجداء الانتداب "الاحتلال"

علي رباح/ باحث وكاتب سياسي

بماذا يمكن توصيف حادثة تجمّع مواطنين امام الرئيس الفرنسي ايمانويل ماكرون لاستجدائه أن يعيد احتلالنا او انتدابنا بالمعنى الملطف للكلمة؟ ولست متأكداً إن كان معظمهم بريئاً، لأنني أكاد أجزم أن جلهم ما زال ينظر الى الدول الغربية كجمعيات صديقة للإنسان والبيئة رغم كل التجارب المريرة التي تتمحور حول فكرة جوهرية واحدة مفادها :"أن هذه الدول لا تقيد في حساباتها الا ما وافق مصالحها حتى لو اضطر الأمر للتضحية ببعض الأتباع أو كلهم ..". مع الاشارة الى أنني لا أقدم العذر لأي أحد من المصابين والمجروحين لأن الهروب من الطبقة الفاسدة لا يسيغ لنا الارتماء في أحضان المستعمر. نعم قلبي ووجداني يئنان لأجلهم، ولكن ليس الى حد التخلي عن حريتنا واستقلال بلدنا، فوجع الانسحاق المعنوي أمام دول الهيمنة يتجاوز بألمه الوجع المادي من جراء الحوادث والحروب وغيرها.

هذه الحادثة غريبة وخطيرة بكل أبعادها، فهي كشفت عن اختلالات عميقة في الوعي وتشكله في شريحة ليست قليلة من المجتمع اللبناني، ولست أقصد فقط الذين قاموا بهذا العمل الشنيع، إنما أيضًا المؤيدين له والمبررين لفعله وحتى الساكتين عن اتخاذ موقف رافض ازاء هذه الانتكاسة الوطنية التي تتجاوز بحجم خطورتها وأضرارها خطورة وأضرار الانفجار ولمراتٍ مضاعفة.

والسؤال الذي يطرح نفسه: كيف يتشكل الوعي وخصوصاً الوعي السياسي منه في العقل الفردي والجمعي الدافع لاتخاذ هكذا مواقف؟

إن تفسير عملية تشكل الوعي مسألة عويصة نسبياً، وكانت ولا زالت محط نقاش العديد من الفلاسفة وعلماء النفس والاجتماع. ولكن لربما استطعنا تعداد بعض الامور التي تساعد في هذه العملية الديناميكية وتُعتبر من المداميك الاساسية في هذا المضمار كالتربية والمنهج التعليمي والمجتمع والجماعة والاعلام ثم الاعلام ثم الاعلام، والتحدث عن المناهج التعليمية والاعلام ولو باقتضاب ضروري ..

أقر المستعمر مناهجنا التعليمية قبل ان ينسحب عسكرياً من دولنا، وحافظ عليها بحرص ليس مستغربا، وما مبلغ الـ 15 مليون دولار المقدم من جمعية "الرئيس الفرنسي ماكرون" الخيرية (...) لمدارس معينة الا في هذا السياق، ويُناط بهذه المناهج إنتاج عقولٍ منمطة، تقنية، مبرمجة لتدمير نفسها ومن حولها، ومسيطر عليها سيطرة مالك "الريموت الكونترول" على الروبوت البشري، وتتخرج هذه الأنماط لتكون جاهزة للسقوط في ثقب الاعلام الأسود، تتلقف التلقين فلا تحلل، ولا تتجرد، فاقدة للمعايير العقلائية والموضوعية، تحمل هذا التلقين وتدور به متبجحةً بما تحمل ..

والنتيجة، ماذا؟ .. مشهدٌ سريالي درامي، بشرٌ فقدوا الهوية، أو لا هوية لهم، يستجدون الاستعمار ليعود اليهم، حاملاً معه كل ارثه الكولونيالي، مع تحديثٍ ابداعي، عمل على اسقاط الشعوب من الداخل، بوسائل مختلفة: أنظمة اوريولية وضعها هو، كومبرادور اقتصادي اشترك معه في عمليات سحق اقتصادية، اعلام مجند عمله زرع بذور الشك تجاه الضحية المطالبة بالتحرر، وتسليط الاضواء عليها وكأنها سبب الكوارث وجعلها في انظار الشعوب مصدر الالام الامنية والاقتصادية، من خلال فبركات ممنهجة وضخ كثيف لمغالطات في الاخبار، وبرامج "التوك شو" والفكاهة السياسية، ووسائل التواصل حيث يعشش الذباب الالكتروني، وكل هذا في اطار بروباغندا تراجيدية تصور سعي الخاروف لمجابهة الذئاب الطيبة والانسانية ذنباً لا أخلاقياً وارهاباً يقوض على هذه الذئاب الافتراس بسلام.

"تعالي ايتها الشعوب الينا، واعلمي أن حركاتكم التحررية لم تجلب لك سوى الفقر والحروب، دعونا نحتلكم ونأخذ ثرواتكم لنحتفظ بها لدينا لتكون بآمان، دعونا نعلمكم ما لا يُتعب عقولكم، .. تعالوا نستعبدكم فأنتم لا طاقة لكم أن تكونوا احرارا..."  هذا لسان حال المستعمر الناطق باللاتينية في صيغها الفرنسية والانجليزية.

اخيراً، لن تستقيم هذه الاوطان حتى تنفض عن كاهلها الاستعمار الثقافي والتربوي والاعلامي، وتنتج عقولاً قادرة على العمل وفق منهجية واعية ورشيدة، عقول متعلمة تحلل وتميز وتستنتج وتعتبر من التجارب وتشكل وعياً يمكنها من فهم حقائق الامور ولا تنطلي عليها استعراضات الآتين من وراء البحار. وحينها تدرك هذه العقول أن حركات التحرر لم تكن يوماً الا نتيجة الاحتلال والاستعمار وغطرسته وتدخله وتجاوزه كل الحدود، وحينها ايضاً نعلم جميعاً أن التحرر هو اللبنة الاولى الاساسية في "ميكانيسم" تشكل الوعي ..

بيروت الكبرى

إقرأ المزيد في: آراء وتحليلات

خبر عاجل