آراء وتحليلات
أزمة سد النهضة: خيارات مصر واستغلال "اسرائيل"
سركيس ابو زيد
تواجه مصر في ھذه المرحلة ملفات ثلاثة استراتیجیة تمس أمنها القومي، وھي: الملف اللیبي الذي اتخذ أبعادًا جدیدة بعد التدخل التركي الداعم لجماعة الإخوان المسلمین، وملف الأمن والإرھاب خصوصًا المتعلق بأمن سیناء وامتداداته حتى غزة، وملف النیل الذي ھو في صلب وأساس "الأمن المائي" لمصر، وبرز بقوة الى الواجھة في ضوء النزاع الناشب مع إثیوبیا بسبب أزمة سد النھضة الإثیوبي الكبیر والأمر الواقع الذي تسعى إثیوبیا لفرضه على مصر.
عقد مسؤولون رفیعو المستوى من البلدان الثلاثة اجتماعات عدة في واشنطن بین تشرین الثاني 2019 وشباط 2020. كما اجتمعوا مع الرئیس الأمیركي دونالد ترامب في البیت الأبیض في تشرین الثاني الماضي. وحاولت واشنطن استخدام ضغوطھا الاقتصادیة والمالیة لحث الأطراف على حل خلافھا، وكانت تأمل في عقد اتفاق بحلول نھایة شھر شباط، لكن سرعان ما تلاشت ھذه الآمال بعد انسحاب إثیوبیا المفاجئ من المحادثات.
یمثل النیل بالنسبة الى مصر شریان الحیاة الرئیسي، وھي تنظر إلى السد القائم على رافد النیل الأساسي بوصفه تھدیدًا بالتحكم في تدفق المیاه التي تعتمد علیھا كل مناحي الحیاة في مصر تقریبًا. لھذا السبب، تعتبر مصر السد تھدیدًا وجودیًا لھا، وتشعر بالقلق من أن یؤدي بناء السد على النیل الأزرق إلى تراجع إمدادات المیاه وتولید الطاقة في سد أسوان العالي. وبعد امتلاء الخزان، لن یستھلك السد المیاه مباشرة، بل إنه قد یؤدي إلى زیادة الري بدرجة كبیرة في السودان، ما یعني تراجع كمیات المیاه التي تتلقاھا مصر. وأھم الآثار التي تحاول مصر تجاوزھا بوار مساحات كبیرة من الأراضي الزراعیة، وانخفاض منسوب المیاه الجوفیة، وتداخل میاه البحر في دلتا النیل وارتفاع نسبة الملوحة في أراضیھا، كما زیادة التلوث وتھدید المزارع والثروة السمكیة.
تصاعد التوتر بین مصر وإثیوبیا بسبب سد النھضة، فتح الباب أمام الكثیر من التكھنات حول ماھیة الخیارات المطروحة أمام مصر لتسویة ھذا التوتر. ومن أبرز ھذه الخیارات:
الأول: أن تقبل مصر بسد النھضة كأمر واقع لا رجعة عنه، وھذا الأمر سیخلق أزمات إقلیمیة جدیدة في المنطقة، لأن إثیوبیا تكون قد فرضت نفسھا قوة إقلیمیة جدیدة، مقابل مصر التي لم تستغل قوتھا الاستراتیجیة في إدارة ھذا الصراع. إثیوبیا حینئذ لن تتوقف عند ھذا المشروع فحسب، بل ستقوم باستخدام نفوذھا الجدید في بناء سدود جدیدة على نھر النیل تحرم مصر المزید من المیاه، وھو ما سیقضي على الأمن المائي والغذائي لمصر بصورة نھائیة. ھذا سیوفر لإثیوبیا ثروة طائلة ستستغلھا في بناء ترسانتھا الحربیة والتي ستوازي مع السنوات ترسانة مصر الحربیة.
علمًا أن تصاعد التوتر في منطقة البحر الأحمر بدأ خلال زیارة للرئیس الفرنسي إیمانویل ماكرون لأدیس أبابا، وتوقیع البلدان اتفاقیة تعاون دفاعي تعھدت فیھا باریس بتطویر سلاح البحریة الإثیوبي وتدریب البحارة الإثیوبیین في فرنسا. كما أعلنت إثیوبیا عن استعدادھا لتأسیس قاعدة بحریة في جیبوتي تمنحھا وجودًا عسكريًا نادرًا عند المدخل الجنوبي للبحر الأحمر. فضلًا عن أن "إسرائیل"، التي تسعى لتحقیق مصالح على المستوى الاستراتیجي في منطقة القرن الإفریقي لاحتضانھا منابع النیل وموانئ ومعابر بحریة مھمة، تقدم الدعم الفني والمالي لإثیوبیا. وترددت معلومات عن نشر منظومة الصواریخ الإسرائیلیة MR-Spyder حول سد النھضة.
الثاني: العودة إلى طاولة المفاوضات ضمن الشروط الإثیوبیة من دون تدخل وسطاء أجانب، وھو ما سیظھر مصر بعد كل ھذه السنوات وهي "الطرف الأضعف"، ما قد یجبرھا على التنازل عن "تعنتھا"، كما یصفھا الجانب الإثیوبي، حول مفاوضات سد النھضة. ومع أن ھذا الخیار سیكون أفضل لمصر إلا أنه لن یختلف كثیرًا عن الخیار الأول في المعطیات والنتائج، لأن إثیوبیا أثبتت تفّوقھا على مصر خلال السنوات المنصرمة في أسلوبھا في إدارة الصراع، وھذا أدى إلى اھتزاز صورتھا كقوة إقلیمیة وفقدان ثقة الشارع المصري بھا.
الثالث: وھو الأفضل لجمیع الأطراف، لجوء مصر لمجلس الأمن، وھو ما نص علیه میثاق الأمم المتحدة لحل النزاعات التي تھدد الأمن والسلام العالمیین بالطرق السلمیة. وھنا یجب على مصر استصدار قرار من المجلس بإیقاف جمیع الأعمال المرتبطة ببناء السد وتشغیله لحین النظر في ھذا الصراع القائم وحله ضمن مظلة الأمم المتحدة.
الرابع: الحل العسكري، ھذا الخیار مطروح على الطاولة المصریة، ولكنه مستبعد نظرًا لضعف الجبھة الداخلیة المصریة والأوضاع الإقلیمیة المحیطة بھا، إضافة إلى التبعات الإقلیمیة والدولیة لتكالیف الحرب، إذ إن مصر لیست مستعدة لدخولھا مع الضغوط الاقلیمیة التي تحيط بھا، خصوصًا في لیبیا حیث تستعد حكومة الوفاق الوطني المدعومة من تركیا لھجوم قد یؤدي إلى تدخل عسكري مصري، بالإضافة إلى أن ھناك قوى إقلیمیة ودولیة لھا استثمارات كبیرة في تلك المنطقة ستحول دون وقوع مواجھة عسكریة بین البلدین مھما كلف الأمر، لأنھا ستكون كارثیة جدًا على جمیع الأطراف.
إذا نجحت أدیس أبابا في تھدیدھا، فمن المرجح أن تتخذ الأزمة منعطفًا جدیدًا. فالمسؤولون في مصر یتھمون الحكومة الإثیوبیة باتباع سلسلة من الحیل الدبلوماسیة المخادعة منذ توقیع إعلان المبادئ عام 2015، الذي یشیر إلى أنه یجب على جمیع الأطراف التوصل إلى اتفاق أولاً قبل ملء الخزان.
وهنا سيكون لواشنطن دور أساسي في توجيه الأزمة، فعلى
إقرأ المزيد في: آراء وتحليلات
21/11/2024
خطاب الأمين: قوةٌ وتمكين ونصرٌ وتطمين
19/11/2024