آراء وتحليلات
25 يناير... والفرصة الضائعة
إيهاب شوقي
تمر ذكرى 25 يناير في مصر كل عام بشعور يكاد يكون متفاوتا، بين الشجن، والغضب والندم ، والتشوق لعمل ثوري تستكمل به ثورة تم اجهاضها.
كما تتفاوت ايضا التقييمات، بين كونها ثورة حقيقية، او كونها جزء من مؤامرة "الربيع العربي" الملونة، او خليط هجين امتزجت به الاشواق الثورية مع مخططات اخرى.
والحديث هنا بأثر رجعي قد يكون مفيدا من جهة التحليل والرؤية عن بعد وكشف الحقائق واستقاء العبر، ولكنه لن يكون مفيدا في وضع حكم نهائي على هذا العمل الثوري وقد يكون ظالما له ولمجاميع شعبية خرجت بأشواق ثورية حقيقية.
وليس هذا المقال من نوعية مقالات احياء الذكرى والمناسبات، ولكنه من نوعية الاجتهاد في استقاء بعض الدروس لحالة ممتدة لم يتم حسمها بعد رغم تبدل الوجوه والاحداث العاصفة التي مرت بها مصر والمنطقة، وما صاحبها من تبدل للتوازنات.
وهذه الحالة باختصار مفادها هو : "عدم الانسجام بين طبيعة مصر ودورها وبين وضعها الفعلي".
فمن المعلوم تاريخيا وجغرافيا بالضرورة، ان مصر مفروض عليها ان تلعب دورا رئيسيا بالاقليم، وتم تكريس هذا الدور عقب انطلاق ثورة يوليو لتنتزع مصر دورا مرسوما لها، غابت طويلا عنها فرصة ممارسته عبر تكبيلها بالاحتلال ولكنها كانت تمارسه عبر مسالك اخرى ناعمة، مما اعطى لها قوة ومكانة وسط محيطها العربي الذي لم تنقطع عنه او تخاصمه.
ولكن بعد شذوذها عن الاجماع الوجداني بفعل مسارات مخالفة تمثلت في معاهدة السلام المزعومة، وبعد اختراقات وهابية وامريكية، تغيرت صورة مصر وفقدت كثيرا من مكانتها، لدرجة ان الهجوم عليها كان حادا بحكم حدة مكانتها الوجدانية، وهو ما اغضب بعض المصريين وعمق بعض الهوات التي تشكلت من هذا الهجوم، دون ان يلتفت المصريون ان حدة الغضب جاءت متناسبة مع حدة المحبة والمكانة، ودون ان يلتفت بعض العرب ايضا ان تغييرات طرأت على دولهم مشابهة لما طرأ على مصر وان لم يكن بنفس القدر وان لم يحدث ذات الصدمة.
هذا الوضع الغير متجانس بين دور مصر المفترض والفعلي، وما رافقه من تراجع لقوتها الناعمة مصحوبا بأزمات اقتصادية، ولّد وضعا ثورياـ وخلق ظرفا موضوعيا للثورة، ولكن غاب عنها الظرف الذاتي المتمثل في تنظيم وقيادة، وكانت حصيلة تجريف الحياة السياسية في عهد الرئيس الاسبق مبارك، ان تشكل ظرف ذاتي مشوه، فكانت القوى السياسية متباينة في رؤية التغيير، اضافة الى الاختراقات الاستعمارية للحياة السياسية والتي ابرزت افكارا ثانوية وارتقت بها لمرتبة الافكار الرئيسية، والمحصلة ان الاتفاق النهائي كان على الرفض فقط دون اتفاق على البديل.
بأثر رجعي، قد نقول ان هناك اخطاء كبرى تتمثل في عدم تشخيص ازمة مصر، وعدم الاتفاق على تغيير جذري، وتصدير مطالب ديمقراطية بنكهة غربية، تعد ترفا امام المشكلة الرئيسية، والمتمثلة في التبعية والتحالفات الكارثية مع الرجعية العربية، والاختراقات الصهيونية المتغلغلة في مفاصل رئيسية من حياة المصريين، وكذلك يمكننا انتقاد الاساليب الملونة للثورة والائتلافات المتعددة المتنافسة التي شكلت صراعا وتشتيتا للجهد وتفريقا للمطالب، واتصالات بعض الائتلافات مع الغرب مما تناقض مع وطنية المطالب والتحركات، ويمكننا انتقاد خفوت الحس المقاوم والمناهض للامبريالية والصهيونية، وكذلك الحس الاجتماعي والاقتصادي المنادي بتغييرات جذرية.
ولكن بالعودة للحظة انطلاق الثورة فيمكننا ـ كشهود عيان ومشاركين ـ ان نؤكد وطنية الحشود التي خرجت وثوريتها وعدم خوفها من المجهول الذي اقتنص ارواح الكثير ممن شاركوا بشكل عشوائي، وهو ما يؤكد ان الامل والحلم كان اغلى من الامن الشخصي والحياة.
كما كانت كل المناقشات بالميدان تصب في صالح تغيير جذري ولا تناقض الاطار الوطني والمقاوم، ولم يجهض ذلك سوى المطالب الهزيلة التي قدمت من قبل من تصدروا الصورة في الميدان والاعلام وقاموا بالتفاوض حولها، ولم تكن الحشود تعلم من هم وكيف تصدروا ولماذا، ولكن الميدان والتواجد به وحلم التغيير كان اكبر من هذه التساؤلات، رغم اهميتها، ورغم ان غياب التساؤلات وترك المجال لم تصدر هو من اجهض الثورة!
بعد هذه السنوات وبعد تبدل الوجوه وعناوين النظام الحاكم، لازالت الحالة كما هي، ولا زال عدم الانسجام بين مصر المفترضة ومصر الواقعية كما هو، وهو بلا شك يقود الى عدم توازن والى ثورة كبرى مؤجلة الى حين.
ولازال الظرف الموضوعي موجودا، بل يتعمق بمستجدات الازمات والديون وتردي احوال المصريين وسياسات استفزازية لا يفهم الشعب فلسفتها، رغم الحاح الاعلام على انها سياسات حكيمة وتشكل بناء وتنمية!
ولكن الظرف الذاتي والقوى السياسية والقيادات لاي تغيير، غائبة عن المشهد، وهو امر بقدر ما هو خطير، ولكنه قد تكون له بعض الفوائد!
من هذه الفوائد، هو المراجعة والتشخيص الجيد، وعدم الاكتفاء بالرفض، بل السعي لمعرفة ما هو محل القبول.
الامر في مصر ليس ديمقراطيا شكليا، فقصر الامر على انتخابات وتداول سلطة وبرلمان واحزاب، ولد ما نراه حاليا، من تفصيل لبرلمان، واعلان لاحزاب، ودستور موجود على ارفف مكتبات الوطن!
الامر اذن يتعلق باستقلال وطني لا يكبل ايدى اي سلطة حاكمة عن اتخاذ ما يلزم من اجراءات اقتصادية وطنية لا ترتبط بالمنظمات الدولية وبفلسفة العولمة التي تجبر على السير في طريق الاستدانة وخدمة هذه المنظمات على حساب خدمات الشعوب ومصالحها.
الامر يتعلق باستقلال وطني يتيح التحالف مع القوى التي تقاوم الهيمنة وتقاتل الارهاب، لا التحالف مع القوى التي تمول وتوظف من يهددون سيادة البلاد ويفككون دولتها.
الامر يتعلق باستعادة مصر المقاومة ذات الاقتصاد المقاوم، ودورها المركزي في التحرر الوطني والذي اعطاها قوتها ومكانتها.
لو تشكل الظرف الذاتي بالاتفاق على هذا التغيير الجذري، فلن تستطيع قوة اجهاض هذا التغيير او التحايل عليه.
كانت يناير فرصة ضائعة في هذا التغيير، وربما لا تكون ضائعة لو استغلت كدرس وعبرة ومنطلق لمطالب واشواق تتم صياغتها بشكل سليم.
إقرأ المزيد في: آراء وتحليلات
21/11/2024
خطاب الأمين: قوةٌ وتمكين ونصرٌ وتطمين
19/11/2024