آراء وتحليلات
أميركا الأطلسية تنهزم والمحور الشرقي الجديد يتقدم
صوفيا - جورج حداد
خرجت الولايات المتحدة الأميركية من الحرب العالمية الثانية سليمة معافاة، لأنه لم تنفجر قنبلة واحدة على أراضيها، بسبب بعدها الجغرافي عن ميادين القتال، لا بل إن تلك الحرب الرهيبة كانت "أكبر مشروع بيزنس مربح" لأميركا التي استفادت من الحرب أكثر من أي خطة اقتصادية يمكن تصورها. وبفضل الحرب العالمية الثانية، تحولت الولايات المتحدة الاميركية الى أغنى وأقوى دولة في العالم. في حين حلت الخسائر البشرية المريعة والدمار الهائل والجمود والانهيار الاقتصادي، بالغالبية الساحقة من دول العالم، ولا سيما الاتحاد السوفياتي السابق، وبمن فيها الدول الاستعمارية الاوروبية، المنهزمة والمنتصرة، ومستعمراتها السابقة الاسيوية والافريقية.
وهذا الوضع شجع أميركا على أن تطرح في نهاية الحرب فكرة "الرابطة الاطلسية" التي تجسدت في حلف شمالي الاطلسي (الناتو) الذي يربط اميركا واوروبا الغربية معًا، كإطار يوحد ضفتي الاطلسي الشمالي من أميركا الى أوروبا الغربية، من أجل الوقوف ضد الاتحاد السوفياتي والمعسكر الاشتراكي السابق، كحد أدنى، والعمل لفرض الهيمنة الاميركية على العالم، كحد أقصى. ويمكن القول إن النصف الثاني من القرن العشرين يمثل "العصر الذهبي" للامبريالية الاميركية التي تمكنت خلاله من تحقيق ثلاثة أهداف كبرى على طريق الهيمنة الأحادية على العالم:
ـ1ـ بعد سقوط النظام الكولونيالي القديم والتحرر السياسي الشكلي للمستعمرات وشبه المستعمرات السابقة، عمدت الامبريالية الاميركية والغربية الى تأسيس "النيوكولونيالية"، واستبدال النير الاستعماري القديم بالنير الاميركي الجديد، عبر القروض و"المساعدات" المالية والاقتصادية (بديلا عن جيوش الاحتلال المباشر) التي وضعت شعوب ودول المستعمرات السابقة تحت رحمة الامبريالية الاميركية والمؤسسات المالية الدولية الخاضعة لها والمتمثلة بالدرجة الاولى بالبنك الدولي وصندوق النقد الدولي.
ـ2ـ نجحت الامبريالية الاميركية في تحويل اوروبا الغربية كلها الى منطقة نفوذ تابعة للولايات المتحدة الاميركية.
ـ3ـ وأخيرًا نجحت الامبريالية الاميركية في الاستبعاد (المؤقت تاريخيًا) لخطر الشيوعية، بتقويض الاتحاد السوفياتي والمنظومة السوفياتية السابقين، بفضل الدور التخريبي الداخلي للطابور الخامس الموالي للغرب الذي كانت تمثله البيروقراطية السوفياتية، الستالينية والنيوستالينية، العميلة السرية ونصف السرية والعلنية، لليهودية العالمية.
ولكن بالرغم من هذه النجاحات الجيوستراتيجية الكبرى، فإن الامبريالية الاميركية فشلت فشلًا ذريعًا في فرض هيمنتها على العالم، التي ـ بالضد من ذلك ـ تحولت الى مشكلة العالم الاولى. ذلك ان الامبريالية الاميركية لم تستطع أن تفرض "سلامها الاميركي" وان تحقق "paxa Americana" على غرار "paxa romana" للامبراطورية الرومانية القديمة. بل إن جميع مشكلات العالم قد تفاقمت بظل الهيمنة القسرية الاميركية المؤقتة. ويكفي أن نشير الى الخطر البيئي والتلوث والاحتباس الحراري وذوبان الجليد القطبي وخطر الأعاصير والفيضانات والزلازل المتفاقمة التي تهدد الوجود البشري على الكرة الارضية. وخلال هذه الحقبة ـ وبفضل النظام المالي (الدولار الورقي) الذي فرضته اميركا على العالم، تحولت الدولة الاميركية بذاتها الى دولة طفيلية تشكل عبئا على وجود المجتمع البشري بأسره. اذ إن الدولة الاميركية تحولت الى دولة ريعية ـ استهلاكية، يمثل الانتاج فيها اقل من 18% من الاقتصاد الاميركي، ويمثل الناتج القائم الأميركي أقل من 20% من الناتج القائم العالمي، في حين أن الاستهلاك الأميركي يمثل أكثر من 40% من الاستهلاك العالمي. وتغطي أميركا هذا الفارق المخيف بين انتاجها واستهلاكها بطباعة الدولارت الورقية التي لا تغطية ذهبية لها، أي أن أميركا تستهلك السلع التي تشتريها من جميع دول العالم مقابل قصاصات ورقية لا قيمة ولا أهمية ولا دور لها سوى تخريب الدورة الاقتصادية والانتاجية العالمية. وليس سرًا أن الدولار الورقي يفقد قوته الشرائية باستمرار وتنخفض قيمة الاحتياطات المالية لجميع دول العالم بنسبة انخفاض قيمة الدولار، وذلك لمصلحة أميركا وحدها. وهنا يكمن "سر" جميع الازمات والمشكلات الاقتصادية والمالية العالمية، التي تنشأ عن النظام المالي الدولاري لأميركا التي تحولت الى "بؤرة جرثومية" اقتصادية وسياسية وأمنية وصحية، تقوم بتوليد وتصدير الأزمات والمشكلات والافلاسات والتجويع والقلاقل والارهاب والأوبئة الى جميع بلدان العالم بأسره.
وفي الاطار الاستراتيجي، الاقتصادي والسياسي والعسكري، تجلى الفشل التاريخي الأميركي في مظاهر عديدة، أهمها:
ـ1ـ إن البلدان المستعمرة وشبه المستعمرة السابقة (بما فيها العالم العربي ـ الاسلامي واميركا اللاتينية) تحولت الى فضاء واسع للعداء للامبريالية الاميركية والغربية والصهيونية. وصار العداء لاميركا والصهيونية معيارا للوطنية والنزعة الاستقلالية في جميع بلدان العالم.
ـ2ـ ان بلدان اوروبا الغربية الخاضعة للنفوذ الاميركي والمنضوية في حلف شمالي الاطلسي "الناتو" أصبحت ترتعد من فكرة المواجهة العسكرية مع روسيا. ذلك أن حلف "الناتو" كله بقضه وقضيضه أصبح يبدو كجرو صغير عاجز أمام الدب الروسي الجبار. وفي هذه الأوضاع فإن دول أوروبا الغربية قاطبة أصبحت تتململ وتسعى للخروج من تحت ربقة الوصاية الاميركية من وراء الاطلسي، وتتطلع أكثر فأكثر نحو الشرق.
ـ3ـ بالرغم من شهر العسل، ماليًا وتجاريًا واستثماريًا، الذي طبع العلاقات الاميركية ـ الصينية بعد زيارة كيسينجر ونيكسون للصين في مطلع السبعينيات من القرن الماضي؛ وبالرغم من الحرب الظالمة التي فرضت على الشعبين الشقيقين الايراني والعراقي، في ثمانينيات القرن الماضي، تحت الشعار الاميركي حول "الاحتواء المزدوج" للبلدين؛ وبالرغم من انهيار الاتحاد السوفياتي والمنظومة السوفياتية في تسعينيات القرن الماضي... بالرغم من ذلك كله، فإن الامبريالية الاميركية ـ اليهودية حققت "نجاحا" منقطع النظير في استعداء الشعوب العظيمة وذات الحضارات العريقة، والثروات التي لا تنضب والقدرات الهائلة، لروسيا والصين وايران، ودفعتها دفعا للتقارب والتعاون العضوي فيما بينها، وتشكيل "الحلف الشرقي الجديد"، الذي يقف الآن كالطود الشامخ بوجه الغطرسة الاميركية، والذي أخذت تلتف حوله جميع الدول والقوى التحررية، الوطنية والتقدمية، في جميع انحاء العالم. وقد رأينا مؤخرًا كيف أن ايران الثورة، المدعومة تمامًا من روسيا والصين، أرسلت حاملات النفط والسفن المحملة بالمواد الغذائية لكسر الحصار الاميركي على فنزويلا ومساعدة الشعب الفنزويلي المناضل، دون ان يجرؤ تابع اميركي على الصراخ بوجه القافلة الايرانية (طبعا باستثناء بعض اتباع اميركا اللبنانيين والعرب الذين هم "كاثوليكيون" اكثر من بابا الفاتيكان).
طبعا إن الادارة الأميركية لم تقف مكتوفة الأيدي. وقد شنت الحرب التجارية وسياسة الحصار والعقوبات المالية والاقتصادية ضد البروز التدريجي للمعسكر الشرقي الجديد. ولكن هذه السياسة الامبريالية ـ اليهودية الغبية هي سيف ذو حدين. ذلك ان تضييق الخناق "الدولاري" على روسيا والصين وايران والدول والشركات التي تتعامل معها، يؤدي في الوقت نفسه الى تقليص مساحة وحجم الاستخدام العالمي للدولار، وبالتالي تقويض دور الدولار بوصفه "عمود الخيمة" للنظام المالي الدولاري الاميركي. والمحصلة المنطقية لهذه السياسة الغبية هي ان اميركا تضايق روسيا والصين وايران جزئيا فقط، لان اقتصاد هذه الدول هو اقتصاد انتاجي، اما اميركا فهي تنتحر بيدها ذاتها لان اقتصادها هو اقتصاد طفيلي ريعي ـ استهلاكي.
وبمواجهة الخطة الشمال ـ اطلسية الفاشلة لاميركا، أطلقت روسيا، بمشاركة فعالة من قبل الصين ومعهما ايران، خطة "اوراسيا" الكبرى لتوحيد القارتين الاسيوية والاوروبية في "قارة واحدة" اقتصاديا وسياسيا وثقافيا وامنيا وعسكريا، وبناء عليه اعادة رسم النظام العالمي بمجمله من جديد، بما يحفظ لجميع بلدان وشعوب العالم استقلالها وسيادتها وكرامتها الوطنية ومصالحها الوجودية، ويشرك الجميع في انقاذ الكرة الارضية من وباء النظام الرأسمالي الاحتكاري العالمي، الامبريالي الاميركي ـ اليهودي، الذي اصبح يهدد وجود الحياة على الكوكب الارضي.
ــــــــــــــــــــــــــــــــ
*كاتب لبناني مستقل
إقرأ المزيد في: آراء وتحليلات
21/11/2024
خطاب الأمين: قوةٌ وتمكين ونصرٌ وتطمين
19/11/2024