معركة أولي البأس

آراء وتحليلات

اوروبا:
16/04/2020

اوروبا: "رجل العالم المريض"!

صوفيا ـ جورج حداد

تقوم روسيا اليوم بتقديم المساعدة الانسانية لايطاليا التي أصيبت بشكل مأساوي بوباء كورونا. وقبلها كانت الصين، كوبا، مصر وغيرها من الدول التي أبدت الاستعداد أيضًا لمساعدة ايطاليا.

وفي الوقت الراهن تمثل أوروبا أكبر مشكلة في العالم القديم بسبب عجز غالبية الحكومات الاوروبية عن التقييم الصحيح وفي الوقت المناسب خطر وباء كورونا، وهو ما حول القارة الى بؤرة عالمية للعدوى. تسجل مأساة وباء كورونا نهاية حقبة 500 عام من الهيمنة العالمية لاوروبا، بوصفها معيار التطور الاجتماعي في الوعي العام للناس، وأن توصيف "رجل العالم المريض" لا يمكن ان يكون نموذجا يحتذي به احد.

سبق لاوروبا أن فرضت نفسها كمعيار قياسي للتقدم الحضاري بفضل تفوقها العسكري. وأولوية الاوروبيين أمام الآخرين كانت مرتبطة بالدرجة الاولى بتفوقهم في التكنولوجيا الحربية. وهذا ما أمّن لهم، منذ القرن السادس عشر وما بعد، الأولوية في جميع الحقول الأخرى.

لقد سبق لبريطانيا العظمى وغيرها من دول أوروبا الغربية أن استخدمت القرصنة ضد السفن التجارية في البحار المفتوحة كوسيلة هامة من وسائل تحقيق التراكم الاوّلي للرأسمال الذي قام عليه النظام الرأسمالي العالمي. ولكن الآلية الرئيسية للتراكم الاوّلي للرأسمال كانت تتمثل في النظام الاستعماري (الكولونيالية)، وطفرة الوفرة المادية التي عرفتها اوروبا الغربية في القرون الماضية انما تعود للاستعمار والتوسع والاستيلاء على الموارد من البلدان والشعوب الاخرى، في اسيا وافريقيا واميركا ما قبل الكولومبية، اي البلدان التي لم تكن تمتلك الاسلحة الحديثة المتطورة التي كانت تمتلكها اوروبا. وبفعل الاستعمار انقسم العالم الى قسمين:

الاول ـ المتروبولات (البلدان  ـ الام او الرئيسية) التي مثلتها اوروبا الغربية التي ارتبطت بها قيادة العالم.

والثاني ـ الاطراف، اي البلدان المستعمَرة وشبه المستعمَرة والتابعة، التي شملت غالبية بلدان العالم (باستثناء روسيا التي غزاها نابوليون في 1812 بجيش تعداده 680 الف جندي ووصل الى موسكو التي احتلها، ولكن بعد ان احرقها اهلها وانسحبوا منها حتى لا يجد فيها الغزاة ما يقتاتون به. واضطر نابوليون للانسحاب من روسيا بعد ستة اشهر ومعه 27000 جندي وضابط فقط. اما بقية الـ 680 الفا فسقطوا جميعا اسرى وقتلى على الارض الروسية بفعل المقاومة الشعبية الروسية الشرسة ضد الغزاة).

وتكمن الكولونيالية في اساس انتصار الرأسمالية في اوروبا الغربية، وفشل التوجه والثورة الاشتراكيين فيها (فشل ثورات 1848 وثورة كومونة باريس في 1871، وفشل الثورة الالمانية بقيادة روزا لوكسمبورغ وكارل ليبنخت في 1919).

و"بفضل" الاستعمار الكولونيالي ونهب خيرات شعوب العالم تمتع الاوروبيون لعدة قرون بالازدهار المادي. وتجدر الاشارة الى ان اوروبا الغربية حولت ايضا اوروبا الشرقية (الارثوذوكسية والسلافية) الى تابع لتزويد اوروبا الغربية بالخامات والمواد الاولية. والسبب الرئيسي لاخضاع بلدان اوروبا الشرقية لهذا الوضع التابع هو ايضا عدم امتلاكها للاسحلة الحديثة والمتطورة. وبذلك شاركت بلدان اوروبا الشرقية في بناء النظام الرأسمالي العالمي كبلدان تابعة ومتخلفة، التي يجري الاستيلاء على مواردها. ومثال على ذلك ما قامت به في حينه الدولة البولونية ـ الليتوانية المتحدة التي كانت تستغل بلا رحمة الفلاحين الاقنان في اوكرانيا وبيلاروسيا، من اجل تزويد باريس بالحنطة.

وهذا النظام الرأسمالي الكولونيالي كان يتم اعادة انتاجه باستمرار حتى الازمنة الاخيرة حيث اتخذ شكل "الاتحاد الاوروبي". وبهذا الصدد يقول عالم السياسة الاسباني جوزب كولومير: "بعد ان فقدت البلدان الاوروبية القوية مستعمراتها ما وراء البحار، قامت ببناء امبراطورية كولونيالية داخلية، مبنية على التعاون الاقتصادي والعسكري".

ان وجود "المعيار" الاوروبي للتطور الاجتماعي طوال القرون الخمسة الماضية صار ممكنا بنتيجة امتلاك اوروبا لقاعدة موارد خارجية بفعل نهب المستعمرات. وبفضل هذه القاعدة كان من الممكن وجود القيَم الاوروبية والنموذج الاوروبي للدمقراطية.

وفي العقود الاخيرة بدأت تتضاءل الموارد الخارجية الموروثة من العهد الكولونيالي، مما ادى الى بداية تآكل جاذبية اوروبا للاخرين. كما انتهى التفوق العسكري الاوروبي منذ نهاية الحرب العالمية الثانية. واصبحت اوروبا تستظل بالمظلة النووية لاميركا التي مع ذلك لم تكن تمتلك التفوق في الاسلحة الاستراتيجية. ولكن الولايات المتحدة الاميركية تمكنت من الاحتفاظ بدورها القيادي في الاقتصاد العالمي بفضل الوضع المميز للدولار الورقي في النظام المالي العالمي. اما اوروبا فهي لا تزال تتمتع بالثروات التي تجمعت لديها خلال الـ 500 سنة الماضية من "العصر الاوروبي" الكولونيالي.

واذا كانت اوروبا لا تزال تتمتع ببعض الاولوية، فهذا يعود الى ما يسمى "القوة الناعمة"، المتمثلة في الجاذبية الخارجية لطريقة الحياة الاوروبية، التي يميل الاخرون الى تقليدها واعادة انتاجها. وبالرغم من ان اوروبا قد "شاخت"، وصارت تسمى "القارة العجوز"، ولم تعد تشارك في السياسة العالمية كما في السابق، وليست في وضع يسمح لها بالدفاع عن نفسها بدون الاميركيين، الا ان شوارعها لا تزال نظيفة، وسلعها هي نوعية. كما يبدو الاتحاد الاوروبي وكأنه شبه دولة تعتني بمواطنيها، وتوجد فيها الدمقراطية وحقوق الانسان مصانة. ولا يزال هذا النموذج له تأثيره خصوصا لدى الدول الصغيرة في العالم.

ولكن وباء كورونا وضع اكليلا على قبر "القوة الناعمة" لاوروبا. اذ في نظر كافة بلدان العالم تحولت اوروبا الى رمز للفشل، والكارثة، واللامسؤولية واللامبالاة. والنتيجة هي عشرات الوف الوفيات بسبب وباء كورونا، وانهيار الاقتصاد، وانهيار المثال المشرق لاوروبا كنموذج للتطور التاريخي.

وطوال العشرين سنة الاولى من القرن الواحد والعشرين كانت اوروبا مسرحا لشتى الازمات والمشكلات. وجاءت كارثة وباء كورونا لتتوّج تلك الازمات.

لقد ولى الزمن الذي كانت فيه اوروبا مثالا جذابا لبقية العالم، ولم تعد كما كانت "قمة التقدم الاجتماعي والتطور التاريخي" وتحولت الى "الرجل المريض" على الكرة الارضية، الذي ينبغي احاطته بالرعاية والمساعدة، من قبل روسيا والصين وكوبا ومصر وايران وغيرها من الدول "المنبوذة" والمستعمرات السابقة لاوروبا.
ــــــــــــــــــــــــــــــــ
*كاتب لبناني مستقل 

فيروس كورونا

إقرأ المزيد في: آراء وتحليلات

خبر عاجل