معركة أولي البأس

آراء وتحليلات

مسار معركة النفط بين اميركا وروسيا
07/04/2020

مسار معركة النفط بين اميركا وروسيا

 جورج حداد

المزاحمة الشديدة بين ادارة الرئيس الاميركي ترامب وبين روسيا البوتينية هي من أهم المعطيات الجيو-استراتيجية العالمية في المرحلة التاريخية الراهنة. وتجد هذه المزاحمة في الوقت الحاضر انعكاسها في الحرب النفطية الحالية الناشبة بين أميركا وروسيا.

فأميركا، بالتعاون الوثيق مع تابعتها السعودية وزعانفها الخليجية، تعلم أن 40% من الميزانية الروسية تعتمد على مداخيل تصدير الطاقة. ولهذا فهي ـ اي اميركا ـ تضغط على روسيا بتخفيض اسعار النفط، كي تزعزع مالية واقتصاد الدولة الروسية. كما ان التخفيض الدراماتيكي لاسعار النفط يحمل الضرر الكبير لحليفي روسيا المزعجين جدا لاميركا ومعسكرها، وهما: ايران وفنزويلا، اللتين تشكل عائدات النفط فيهما اهم اعمدة اقتصاد هذين البلدين المعرضين مع روسيا للعقوبات الشديدة من قبل اميركا ومعسكرها.

ولكن من جهة ثانية فإن روسيا "البوتينية"، التي يتضرر اقتصادها بشدة من جراء تخفيض اسعار الطاقة، تدرك في الوقت نفسه انها لم تعد  (مع حليفتيها ايران وفنزويلا) الطرف الوحيد الذي يتضرر من تخفيض اسعار الطاقة، وهي تدرك تماما الحقيقتين التاليتين:

الاولى ـ أن زمن الانتاج الاميركي للنفط من خليج المكسيك وغيره، بالطرق الكلاسيكية (اي الحفر والاستخراج من الابار الطبيعية)، قد ولى الى غير رجعة، وان الانتاج الاميركي للطاقة أصبح يعتمد اليوم على تقنية انتاج النفط الصخري والغاز الصخري. وبصرف النظر عن الاضرار المميتة للبيئة التي يحملها هذا النوع من الانتاج، والتي سيكون لها انعكاسات مدمرة على الحياة في اميركا في وقت ليس ببعيد، فإن تقنية هذا الانتاج هي أكثر كلفة أضعافًا مضاعفة من كلفة الانتاج الكلاسيكي، الذي لا يزال معتمَدا في روسيا لوفرة احتياطاتها من النفط الخام والغاز الطبيعي والتي لم تكتشف كلها بعد. وبعملية حسابية بسيطة هذا يعني ان شركات انتاج الطاقة في اميركا والمستثمرين الاميركيين الكبار، الذين يمكن ان يحتملوا ذبذبات السوق موقتا، غير قادرين على تحمل الخسائر الكبيرة والافلاس في حال تخفيض اسعار الطاقة الى ما دون سعر الكلفة. وبالتالي فإن تخفيض أسعار الطاقة قد أصبح سيفًا ذا حدين ضد روسيا وأميركا معا. علمًا أن انتاج وتسويق الطاقة في روسيا هو في قبضة القطاع العام، في حين أن الانتاج الطاقوي في أميركا هو جزء رئيسي من القطاع الاحتكاري الخاص. وليس معروفا لدى أحد أن الاحتكارات الرأسمالية الخاصة الاميركية هي "وطنية" لدرجة أن تضحي بمصالحها لأجل "اميركا" عموما، ولاجل السياسة المغامرة للادارة الاميركية خصوصًا. وبذلك فإن الاحتكارات النفطية الأميركية، التي هي من أعدى أعداء روسيا، تصبح "حليفا" موضوعيا لروسيا في معركة تعديل اسعار الطاقة عالميا.

والحقيقة الثانية التي تدركها القيادة الروسية هي: ان الزمن الذي كان فيه شيوخ النفط العرب يرضون ببضعة ملايين الدولارات تلقيها اليهم شركة ارامكو وشركات النفط الغربية الاخرى، مقابل الارباح الفلكية لتلك الشركات وحكوماتها، قد ولى ايضا الى غير رجعة. فشيوخ النفط، بواسطة اجيالهم الجديدة ومستشاريهم، تعلموا جيدا أسرار صناعة وتجارة الطاقة، كما "تعلموا" البذخ الاسطوري الذي صار صنوا لحياتهم.

هذا من جهة، ومن جهة ثانية، فبعد الحرب العالمية الثانية ونهوض الحركات الوطنية العربية المعادية للاستعمار ورفع شعار "نفط العرب للعرب"، وقيام حركة مصدق لتأميم النفط الايراني سنة 1952، فإن شيوخ النفط العرب، خونة الامة العربية، أصبحوا يدركون تماما "اهمية وجودهم" بالنسبة للغرب واسرائيل، وحاجة الغرب اليهم مثل حاجتهم هم للحماية الغربية. ولهذا رفع شيوخ النفط العرب "اسعارهم" تجاه حماتهم ومشغّليهم الاستعماريين الغربيين واليهود.

ومن جهة ثالثة نشأت الضرورة لتكوين دول لشيوخ النفط، تمتلك اجهزة امنية وعسكرية وسياسية واعلامية قوية كي تستطيع الاستمرار بوجه حركة التحرر العربية. وفي هذا السياق تحولت المملكة السعودية الى قوة اقليمية فاعلة في المنطقة العربية خاصة والشرق الاوسط الكبير عامة.

وقد تكبدت المملكة السعودية مئات مليارات الدولارات لتمويل الحرب العالمية الداعشية ضد العراق وسوريا ولبنان والدول العربية الاخرى. وهي تتكبد الان مئات مليارات الدولارات للتسلح وتمويل الحرب العدوانية ضد الشعب اليمني المظلوم. كل هذه العوامل جعلت "كلفة" وجود واستمرار وجود شيوخ النفط العرب و"دولهم" وانظمتهم ومنظماتهم الارهابية والتكفيرية، كلفة عالية جدا تساوي مئات والوف مليارات الدولارت، وهو ما يتم تغطيته من عائدات سوق الطاقة وليس طبعا من الميزانية الاميركية او الناتوية او الاتحاد ـ اوروبية. وهذا يعني عمليا ان السلاح الذي كانت السعودية ـ بالتفاهم مع اميركا ـ تشهره دائما ضد روسيا وايران، اي سلاح التهديد بزيادة الانتاج السعودي بطريقة اغراقية لتخفيض اسعار النفط، هذا السلاح أصبح يرتد على السعودية وزعانفها ذاتها اكثر بكثير مما ينعكس على روسيا وايران. خصوصا وان الاقتصاد الروسي والايراني هو اقتصاد متنوع ومتكامل، وليس اقتصادا ريعيا يعتمد على تصدير الطاقة فقط كما هو الاقتصاد السعودي.

ومؤخرا حينما طلبت السعودية من روسيا تخفيض انتاجها من النفط، وهددت ثم شرعت باللجوء الى رفع انتاجها الخاص وشن حرب تخفيض اسعار ضد روسيا، ردت روسيا على هذا التهديد بأن كسرت مرة والى الأبد هذا السلاح الاغراقي السعودي، بحيث عمدت ـ اي روسيا ـ الى تحدي السعودية وزيادة انتاجها الروسي الخاص متحملة ان ينخفض سعر برميل النفط السيبيري الى حوالى 10 دولارات فقط. وهذا ما طيّر صواب ادارة ترامب وشركاته النفطية، كما طيّر صواب شيوخ النفط العرب الذين وجدوا انفسهم كريشة في مهب الريح لانهم هم انفسهم لا يحتملون تخفيض اسعار الطاقة الى ما دون سعر "كلفة" وجودهم ذاته.

ومما عزز الموقف الروسي هو التعاون الوثيق بين روسيا وايران وفنزويلا، كدول منتجة للطاقة، من جهة، وبينها وبين الصين الشعبية اكبر مستهلك للطاقة في العالم. وهذا التعاون بين دول المحور الشرقي الجديد (روسيا ـ الصين ـ ايران ـ فنزويلا ـ كوريا الشمالية) سيكون له اكبر تأثير على مصائر العالم بأسره وفي جميع الحقول. ومعلوم انه كان يوجد دراسات اميركية أنه في حدود سنة 2030 ستحتل الصين المرتبة الاولى كأضخم  اقتصاد  في العالم. ولكن دراسات اميركية جديدة تقول الان ان الصين ستحتل هذا المركز في هذه السنة بالذات اي قبل عشر سنوات من التقديرات السابقة. كما تجلت قوة المعسكر الشرقي الجديد في ازمة وباء كورونا، اذ بعد ان دشنت المخابرات والمختبرات العسكرية الاميركية الحرب الجرثومية ضد الصين الشعبية لضربها اقتصاديا، واخذ دونالد ترامب يسخر من الصين ويتباهى عليها، فقد تحقق المثل القائل "طابخ السم آكله" اذ إن الصين وايران سيطرتا على انتشار الوباء، وبدأت الصين وروسيا وايران تقدم المساعدات للدول الاخرى، بما فيها اميركا ذاتها، في حين ظهر التفكك فيما بين دول الناتو والاتحاد الاوروبي وبينها وبين اميركا.

ومثلما اضطر دونالد ترامب للاتصال بالرئيس الصيني لطلب المساعدة في مكافحة وباء كورونا، فإنه ايضا اضطر للاتصال بالرئيس الروسي بوتين وطلب المساعدة في تهدئة اسواق الطاقة في العالم. وقد طالبت شركات النفط الاميركية بالضغط على السعودية من اجل تخفيض انتاجها وتعديل اسعار النفط العالمية.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــ
*كاتب لبناني مستقل    

إقرأ المزيد في: آراء وتحليلات

خبر عاجل