آراء وتحليلات
كيف سيكون النظام العالمي بعد كورونا؟
د. علي مطر
لا ينتهي الحديث عن تغيّرات النظام الدولي، ويكثر البحث حوله من أجل فهم البيئة المحيطة بالدول، حيث تحدّد هذه العلاقات وترتسم معالمها من قِبل الفاعلين الدوليين. كثُر البحث، في الآونة الأخيرة، عن حقيقة تبدّل معالم هذا النظام، الذي تحوّل إلى نظام القطب الواحد عقب سقوط جدار برلين وانهيار الاتّحاد السوفياتي، ولكن مع مرور ما يقارب الثلاثة عقود بات يتحوّل إلى نظام متعدّد الأقطاب، وهذا التبدل عاد ليطرح نفسه بقوة مع انتشار وباء كورونا.
أولاً: تحولات جديدة
لقد تحول انتشار وباء الكورونا عالمياً، إلى أزمة دولية دخلت فيها معظم دول العالم، حيث أخذ يحصد أرواح عشرات الالاف، ويهدد حياة سكان الكرة الأرضية، ما جعلنا نطلق عليه حرباً عالمية ثالثة ستؤثر في مجمل الأحداث الدولية أو رسم معالم الخارطة السياسية والاقتصادية مجدداً، خاصةً أنه أصبح فرصة دولية تقتنصها دول فترتفع مكانتها، ويزداد ثقلها الدولي، في المقابل فإنه تحول إلى عبء ثقيل على دول أخرى منها من دخلت في كارثة فعلية على كل المستويات، وأخرى من قد تفقد مكانتها، ويتراجع تأثيرها الدولي.
مرحلة ما قبل انتشار الوباء، ليست كما بعدها، هذا أصبح أمراً محتوماً، حيث هناك دولاً كثيرة خاصةً تلك الغربية، ستكون بحاجة إلى سنوات لتلملم جراحها، والبعض منها كنا ننظر إليها على أنها ذات تأثير عظيم وتقدم هائل، لكن أظهر هذا الوباء عملياً عن قوة وضعف القوى الكبرى من خلال سلوكها تجاهه، فسجّلت الصين مثلاً تفوقاً واضحاً في تعاملها سياسياً واقتصادياً واجتماعياً معه، فيما دولاً أخرى كالولايات المتحدة الأميركية أظهرت تخبطاً واضحاً في تعاملها بالداخل والخارج وظهرت في موقف الدولة الانتهازية الأنانية التي لا تبحث إلا عن مصالحها، على عكس الصين التي أثبتت تفوقاً تاماً في الداخل وتفاعلاً كبيراً في مد يد العون إلى الخارج، فيما ظهرت أوروبا كقوة دولية مُتراخية وضعيفة وغير مُتماسكة وغير مُتعاونة وغير جادة في مُواجهة المرض منذ بداية ظهوره.
وفق ما تقدم فإن انتشار كورونا أصبح أبرز حدث عالمي يفصل مرحلتين ما قبله وما بعده، حيث سيكون ما بعد كورونا عالماً مملوءاً بالمتغيرات والتحولات المتوقعة على الصعد كافة، وخاصةً التغيرات التي ممكن أن تطال النظام الدولي، بعد أن كشفت هشاشته وتخبطه وعدم توازنه، وأظهرت عجزه أمام مراعاة قضايا الصحة والسلامة والوعي البيئي. وإن كان واقعياً أن من المبكر الحديث عن هذه التغيرات، حيث لا يزال مصير الحرب مع الوباء ومصير العالم نتيجته غير واضحة، إلا أن هناك تساؤلات مشروعة ومؤشرات عدة تأتي للإجابة عنها تشير إلى حتمية مراجعة تركيبة النظام الدولي الحالي، الذي تحول من الثنائية القطبية بعد انهيار الاتحاد السوفياتي إلى الاحادية القطبية بقيادة أميركية، ليعود ويتشكل من داخله إلى أقرب ما يشبه التعددية القطبية بعد أحداث 11 أيلول واستيقاظ روسيا مجدداً خاصةً بعد أحداث سوريا، ومن ثم التطور الهائل الذي شهدته الصين التي تحولت إلى القطب الاقتصادي الثاني في العالم، ولكن هذا النظام لم يتمكن من كسر الهيمنة الأميركية، لذلك يأتي سؤال كبير هل يمكن أن تعيد تلك الأزمة هيكلة النظام العالمي؟
ثانياً: في طور التبدل..فمن يتقدم؟
على الرغم من أن بعض المعالم بدأت تظهر شيئاً فشيئاً لتظهر المتغيرات القادمة، إلا أنه من المبكر الوصول لاستنتاجات حتمية، على اعتبار أن عوامل كثيرة تتوقف على المدى الزمني الخاص بانتشار الوباء والتعامل معه، خاصة أن التغير لا يكمن في إطاره السياسي فقط، إنما على مستوى العاملين الاقتصادي والاجتماعي إيضاً ، وفي طرق المواصلات والاتصالات والثورة التكنولوجية، فمسألة تغيير النظامين السياسي والاقتصادي العالميين بين ليلة وضحاها أمر صعب، ومن الضروري أن يكون هناك دافع قوي، إذ استمر الوباء لعام، بينما إن انتهى خلال شهور الصيف فسوف يتم اللجوء إلى التفكير أساساً في معالجة الآثار الاقتصادية دون إيلاء الاهتمام الكافي بالقضايا التي طرحها كورونا.
وفي ذروة هذا التحوّل، تتّجه أنظار العالم نحو الصين. الدولة التي لم تعُد منكفئة على ذاتها، والتي أصبحت جاهزة لمقارعة الهيمنة الأميركية، بعدما بات على الأخيرة أن تتقبل فقدانها الأحادية في النظام الدولي. فالصين تتقدم حاليا لتحظى بقيادة العالم في الوقت الذي تفشل فيه الولايات المتحدة مع تحوّل وباء كورونا المستجد إلى حدث عالمي. وقد أشار الكاتبان الأميركيان كورت م. كامبل وروش دوشي في مقالة لهم في Foreign Affairs الأميركية إلى أنه في الوقت الذي تُعتبر فيه النتائج الجيوسياسية لكورونا ثانوية مقارنة بالنتائج على صعيد الصحة والسلامة، فإن النتائج الجيوسياسية ستأخذ أهمية كبيرة على المدى الطويل، خاصة بالنسبة للوضع الدولي للولايات المتحدة، فالنظم العالمية تميل إلى التغيّر التدريجي بداية الأمر، ثم تتغيّر بالكامل في لحظة واحدة.
فالتغيرات العالمية لا تحصل دفعة واحدة، إنما بشكل ممهد، ولا شك أن التمهيد لهذه التغيرات بدأ منذ أحداث 11 ايلول، ومن ثم انتشار الإرهاب في الشرق الأوسط، ومن ثم سيطرة تنظيم "داعش" على سوريا والعراق، في مقابل فشل الولايات المتحدة الأميركية في قيادة هذه الملفات وسط تقدم روسي صيني في صورة التفاعل الدولي، إلا أن انتشار الوباء الجديد لا يشبه ما قبله من أحداث بل هو أكثر فتكاً وتطوراً بشكل يفضح ترهل الدول الأوروبية وفقدان الولايات المتحدة الأميركية على السيطرة، في مقابل تطور صيني في طرق القيادة والإدارة والمساعدة أذهل العالم، وقدرة روسيا على التعامل بشكل أفضل من الإدارة الأميركية، كل هذا ما يبنأ بتغيرات لكن في وقت يرتبط بما سترسمه خارطة انتشار الكورونا وتفاعلها.
ولا شك أن الأحداث الانفة الذكر سبّبت تغييرات جيوستراتيجية كبرى في العلاقات الدولية وسياسات الدول. وحيث أنّ هذه المتغيّرات الجديدة التي فرضت على النظام العالمي قراءة الأنساق الجديدة، ولكن من المهم القول إنّ سقوط جدار برلين، أو برج التجارة العالمي في نيويورك، أو سيطرة داعش على سوريا والعراق، أحداث لا تشبه التغيرات التي حصلت في العالم سابقاً فسمحت للولايات المتحدة الأميركية بالهيمنة، ولا هي تشبه انتشار فيروس كورونا، ففي عام 1956 كشف تدخل فاشل في قناة السويس اضمحلال بريطانيا العظمى وسجل نهاية نفوذ المملكة المتحدة كقوة عالمية. وكذلك شكل سقوط جدار برلين مرحلة انهيار الاتحاد السوفياتي وتحول النظام الدولي إلى الأحادية، واليوم فإن صنّاع القرار في أميركا يجب أن يعوا أن واشنطن إذا لم ترتق لمستوى التحدي الراهن، فإن وباء كورونا سيسجل لحظة سويس أخرى، وبالتالي ستكون لحظة التحول هي لمصلحة الصين. ومن الواضح الآن أن واشنطن فشلت في استجابتها الأولية للوباء، فالمؤسسات الأميركية الرئيسية من البيت الأبيض ووزارة الخارجية إلى وزارة الأمن الداخلي ومراكز السيطرة والوقاية من الأمراض قد هددت ثقة الناس بقدرة وكفاءة الحكم الأميركي، وهذا ما يشير إليه كورت م. كامبل وروش دوشي.
ويمكن القول إن وضع أميركا كقائدة للعالم خلال العقود السبعة الماضية بُني ليس على الثروة والقوة فقط، بل أيضا تحكمها بالعالم، من خلال المساعدات وتسهيل تزويد العالم باحتياجاته، والقدرة والرغبة في حشد وتنسيق الاستجابات الدولية للأزمات، واليوم فإن وباء كورونا يختبر السياسة الأميركية، إلا أن واشنطن فشلت في الاختبار حتى الان، في مقابل تحرك مذهل وسريع للصين لتستفيد من الثغرات التي صنعتها الأخطاء الأميركية وتملأ الفراغ وتضع نفسها في قيادة العالم لمواجهة كورونا. ففي حين لم تستجب أي دولة أوروبية لنداء إيطاليا العاجل بشأن المعدات الطبية ومعدات الحماية، التزمت الصين علنا بإرسال الآلاف من أجهزة التنفس الصناعي وملايين الأقنعة وآلاف البدل الواقية وأجهزة الاختبار، كما أرسلت فرقا طبية وأجهزة ومعدات مماثلة لإيران وصربيا، أما الولايات المتحدة، على النقيض من الصين، تفتقر للمعدات والقدرة على تلبية العديد من مطالبها، ناهيك عن تقديم المساعدة لمناطق الأزمات في أماكن أخرى.
ثالثاً: تغير تدريجي لا حتمي
إذاً، وبناء على ما تقدم، لا شك أن الظرف الحالى مشابه لنفس ظروف الحرب العالمية الثانية، وقد أتى كورونا فى هذا التوقيت ليكون عاملاً محفزاً وكاشفاً لميلاد نظام عالمى جديد، والصين هى القوة الأبرز فيه، بعد أن شكل الفيروس وانتشاره اختباراً للنظم السياسية فى العالم كله وللحكومات على وجه الخصوص، وفي السابق نجحت الولايات المتحدة الأميركية بتصدر المشهد من خلال النجاح في اختبارين هما الحرب العالمية الثانية ومن ثم الحرب البادرة ضد الاتحاد السوفياتي، إلا أنها اليوم تثبت فشلها، فيما تثبت الصين فعاليتها ونجاحها الباهر.
نضيف إلى ذلك أن التغييرات الديموغرافية الناتجة عن كارثة من الكوارث قد تكون عاملاً من العوامل التى تضعف دولة أو إمبراطورية، فالامبراطوريات تسقط عندما تتآكل من الداخل، والأوبئة مثل كورونا عامل مهم قد يؤدي لتشكيل خريطة النظام العالمي وشكله السياسى، كما حدث بعد الحرب العالمية الأولى مثلاً واحتلت بريطانيا وفرنسا العالم الثالث كله، وكما جاءت الكوليرا عام 1961 بعد الحرب العالمية الثانية التى أفرزت الهيمنة الأمريكية والروسية، قد يساعد كورونا إلى جانب عوامل أخرى على إعطاء الصين مزيداً من القوة، وقد يكون كورونا القشة التى قصمت ظهر البعير بالنسبة للنظام الدولى الحالي، فضلاً عن أن الصين تعد أقل الدول التى ستدفع فاتورة من هذه الأزمة، وربما تكون أكثر الدول الرابحة على الرغم من الحرب الإعلامية التي حصلت ضدها، أما الولايات المتحدة الأميركية فهي إن لم نقل أنها ستكون من أكبر الخاسرين أو من حلف الخاسرين فإنها ستكون في معادلة صفرية بالأرباح، خاصةً أنها تدخل في معركة نفطية عالمية إلى جانب الكارثة التي تواجهها من فشل مواجهتها للوباء، كما أن خيار الضربات النووية غير مفعل لديها لأسباب عدة منها قدرة روسيا والصين على المواجهة.
وعلى الرغم من كل ما ذكرناه آنفاً، إلا أنه حتى الان ونشدد على عبارة حتى الان، لا يمكن القول الحتمي بتغيير شامل في النظام السياسي الدولي، في ظل عدم عدم وجود ردة فعل واضحة من قبل دول العالم في تفاعلها مع هذا النظام، إلا أن المؤشر الأهم حالياً للتغير هو فقدان ثقة الدول بالإدارة الأميركية، مع تقدم صيني جديد وواضح. ومع كل ذلك لا يمكن القول أن واشنطن خسرت كلياً ولم تعد الدولة الرئيسة في النظام الدولي، لأن ذلك يحتاج تغير ملحوظ وأشمل في سياسات الدول الأخرى، حيث يرتبط ذلك في تطور انتشار الفيروس ومواجهته، وإلى الان لا توجد مؤشرات حتمية على قرب انهيار المنظومة الدولية الحالية، وإنْ ما يحصل يُمثّل ضربة نهائية لتغير خارطة توزع القوى الدولية، من خلال ضعف المواقف الأمريكية والأوروبية، في مقابل زيادة قوة الموقف الصيني، لكنّ هذا التغيّر الدولي الواضح في النظام الدولي يبقى محدوداً ولا يُبدّل الموقف الدولي الراهن وإنْ كان يؤثّر فيه. وبحسب اعتقادي فإننا لن نكون أمام نظام ثنائي أو احادي إنما أمام نظام تشاركي، لأنه السبيل الأفضل لحكم العالم، حيث المطلوب التركيز على مزيد من التنسيق في الاستجابة الدولية، بدءًا بالتدابير الصحية الطارئة وربما التوسع في الاقتصاد والسياسة من خلال صناديق "إعادة الإعمار" المشتركة بين الاقتصادات.
إقرأ المزيد في: آراء وتحليلات
23/11/2024