آراء وتحليلات
البحر الاسود والبلقان في المواجهة الاستراتيحية بين الناتو وروسيا
جورج حداد
ان
والبحر الأسود هو أكثر النقاط احتمالًا للاصطدام المحتمل بين الطرفين. وهنا توجد لروسيا مشكلات جدية غير محلولة بينها وبين جورجيا واوكرانيا، اللتين لا تزالان تصران على الانضمام الى الناتو، مع ان فرصهما لذلك معدومة، لان قيادة الناتو ذاتها تمتنع عن قبولهما لانها تخشى ان تتحمل مباشرة مسؤولية المواجهة بينهما وبين روسيا. وفي ايلول 2019 اصدر مركز الدراسات الاستراتيجية الاميركي RAND Corporation تقريرا بعنوان "الاستراتيجية الروسية في البحر الاسود: كيف يمكن للناتو ان يحسّن لعبته". وكتب التقرير المحلل الاميركي ستيفان فلاناغان وزميلته الرومانية إيرينا تشيندييا. ويؤكد الاثنان انه "في الوقت الذي تتبع فيه موسكو في الاقليم استراتيجية خاصة، فإن "جيرانها" لديهم مصالح مختلفة وغالبا متضاربة، الامر الذي يعيق امكانية وضع استراتيجية متوافق عليها للغرب لاجل "ردع" روسيا".
والاطروحات الاساسية في التقرير هي التالية:
أولًا ـ بعد استعادتها شبه جزيرة القرم، بدأت روسيا تضاعف قدرات اسطولها في البحر الاسود، وتعزز دفاعاتها في شبه الجزيرة وفي كل القطاع الدفاعي الجنوبي. وهذا ما سمح لها بتعزيز آلياتها "للتأثير" في الاوضاع في البحر الابيض المتوسط المجاور، وكذلك في الشرق الاوسط.
ثانيا ـ يؤكد التقرير أنه لا يوجد توافق بين الدول الأعضاء في الناتو في اقليم البحر الاسود، حول تشكيل موقف موحد بوجه روسيا. فرومانيا مثلا هي ذات مصلحة في أن تضم مولدوفا وهي تهتم بوضع السكان من أصل روماني في منطقة بوكوفينا التي هي جزء من اوكرانيا. أما بلغاريا فهي تتخوف مما يحدث في تركيا التي تتصارع دوريا مع الولايات المتحدة الاميركية وتظهر الازدراء بالتزاماتها كعضو في الناتو، كما تتخوف من تنامي أعداد اللاجئين من سوريا وتفاقم خطر الارهاب الاسلاموي.
وفي هذا الصدد يذكر التقرير أن بلغاريا رفضت مرات عديدة اقتراح رومانيا توسيع الوجود العسكري للناتو في اقليم البحر الاسود.
ثالثا ـ يشير التقرير الى الوضع الخاص في تركيا، التي تمتلك ثاني أقوى جيش في الناتو بعد الجيش الخاص لاميركا. فالعلاقات بين انقرة وواشنطن غير مستقرة بتاتا. وفي غضون عدة اسابيع هدد ترامب اولا انه سيقضي على الاقتصاد التركي، وما لبث ان استقبل الرئيس التركي اردوغان واعلن انه يعتبره صديقه، ثم جمد القرار الذي اتخذه الكونغرس الاميركي بالاعتراف بالابادة التركية للارمن. وانه لذو دلالة خاصة ان تركيا هي ذات مصلحة في الاحتفاظ بالستاتيكو العسكري الحالي في المنطقة.
رابعا ـ غياب التفكير الموحد ليس فقط لدى دول جنوبي شرقي اوروبا البلقانية، بل وفي اوروبا الغربية كذلك. وهكذا فإن الدول الاوروبية الغربية الرئيسية، مثل المانيا، وفرنسا وبريطانيا، تقلق حيال ما يسمى "بريكزيت" (خروج بريطانيا من الاتحاد الاوروبي) وحيال مسألة اللاجئين والازمة في الشرق الاوسط، ولكنها لا تهتم بما يحدث في محيط البحر الاسود، الى درجة ان هذه الدول لا تنظر الى هذا الاقليم بوصفه جزءا لا يتجزأ من اوروبا، بل بالاحرى تنظر اليه على أنه "اقليم مجاور".
خامسا ـ الثقة المتآكلة بسرعة تجاه الولايات المتحدة الاميركية، التي لم يعد ينظر اليها أنها "الضمان الاوتوماتيكي غير المشروط" للامن الاوروبي.
وسادسا ـ ان دول منطقة البحر الاسود (التي كانت في السابق جزءا من المنظومة السوفياتية السابقة) لا تزال الى الان تمتلك بالدرجة الاولى الاسلحة القديمة من العهد السوفياتي السابق. وهذه التكنولوجيا القديمة لا تطابق معايير الناتو الجديدة. والولايات المتحدة الاميركية ودول اوروبا الغربية لا تريد ان تعيد تسليح دول المنطقة، على حسابها. في حين ان ميزانيات واقتصادات الدول المعنية لا تسمح لها بتجديد اسلحتها.
ويذكر تقرير مؤسسة RAND Corporation انه من ضمن آليات مواجهة "النفوذ" الروسي في الاقليم تدعيم القدرات الدفاعية لاوكرانيا وجورجيا، مع انه من الواضح انه في حال اندلاع صدام بين الناتو وروسيا، فهذان البلدان سيكونان الاكثر تضررا.
وفيما يتعلق برومانيا وبلغاريا فالناتو يعمل على تدعيم الدفاعات الجوية والساحلية لهذين البلدين.
والسؤال الذي يطرحه العديد من الخبراء، الغربيين والروس، هو: هل ان هذه الاجراءات ستكون كافية؟ وجواب الاغلبية هو: ان فرص نجاحها معدومة امام القوات الساحلية والجوية الروسية. والسبب انه حتى لو نجح الناتو في ايجاد تشكيلة بحرية خاصة في البحر الاسود، فهي لن تستطيع الصمود امام منظومات الصواريخ الساحلية الروسية من طراز "بال" و"باستيون"، وكذلك المدفعية الروسية الثقيلة ذاتية الحركة من طراز "بيريغ". ويذكر انه بعد استعادة شبه جزيرة القرم عمل الروس بسرعة على تعزيز قدرات اسطولهم في البحر الاسود، وكذلك على تشكيل منظومة مكثفة جوية ـ فضائية صاروخية، بما في ذلك صواريخ "اسكندر ـ M" الهجومية الشهيرة المرعبة التي لا مثيل لها في الغرب ويطال مداها كل نطاق البحر الاسود بما في ذلك المناطق التركية والمضائق، وكذلك نشروا بكثافة الصواريخ الدفاعية S-400 موجدين مظلة فعالة فوق الاراضي الجنوبية الروسية وشبه جزيرة القرم لمواجهة اي هجمات طيران او صواريخ.
ويلاحظ التقرير الاميركي أنه في الوقت الذي عززت فيه روسيا وكثفت حضورها العسكري الدفاعي والهجومي في منطقة البحر الاسود، فإن الخلافات بين خصومها، بما فيها الولايات المتحدة الاميركية، تمنعهم من وضع استراتيجية موحدة لمواجهة الوجود و"النفوذ" الروسي.
وفي ظروف هذه المعطيات الواقعية فإن استراتيجية مواجهة نفوذ روسييا و"ردعها" بالقوة تبقى فكرة "معلقة في الهواء".
هذا ولا بد ان نذكر ان صربيا والبوسنة والهرسك بقيتا خارج حلف الناتو لانه، كما يقول وزير الدفاع الصربي الكسندر فولين، فإن الصرب لم ينسوا الحرب الظالمة التي شنها الناتو على صربيا في 1999، وصربيا لا تريد ان تشارك في حرب مماثلة ضد اي بلد اخر فيما لو انضمت الى حلف الناتو ذي الطابع العدواني.
وحسب تقديرات الاستراتيجيين الاميركيين والناتويين فإن بقاء صربيا خارج الناتو يمكن ان يشكل "باباً" لتغلغل "النفوذ" الروسي في البلقان.
ــــــــــــــــــــــــــــــــ
*كاتب لبناني مستقل
إقرأ المزيد في: آراء وتحليلات
21/11/2024
خطاب الأمين: قوةٌ وتمكين ونصرٌ وتطمين
19/11/2024