معركة أولي البأس

آراء وتحليلات

تركيا المأزومة: الرقص على حبال التناقضات لا يصنع معادلات ثابتة
07/02/2020

تركيا المأزومة: الرقص على حبال التناقضات لا يصنع معادلات ثابتة

سركيس أبوزيد

تُصر تركيا على تحدي المجتمع الدولي بمواصلة تدخلاتھا في العديد من الملفات في المنطقة، بذريعة أنھا تدافع عن الحل السياسي لمشاكلها. لكن التطورات المتسارعة التي تشھدھا المنطقة تشير الى أن أنقرة تلعب دورًا سلبيًا من خلال تأجيج الأوضاع لإطالة الأزمات التي تورطت في خلقھا أو لعبت دوراً سلبياً فيھا، في مسعى إلى تحقيق مكاسب سياسية واقتصادية في ھذه الدول، مما جعل الدولة التي كانت منذ أعوام قليلة تتمتع بنشاط دبلوماسي مكثف ودور إقليمي حيوي وتتبع سياسة "صفر مشاكل"، تعاني من عزلة وضغوط إقليمية ودولية واسعة، والسبب سعيھا الى استعادة دورھا الإقليمي وتوسيع نفوذھا من خلال تدخلھا في شؤون دول المنطقة، وأبرزھا سوريا وليبيا.

في المشھد الداخلي التركي، أوشك نائب رئيس الوزراء وزير الخارجية والاقتصاد الأسبق علي بابا جان، المدعوم من رئيس الجمھورية السابق عبد الله غُل، على إطلاق حزبه الجديد بعد استقالته من حزب العدالة والتنمية الحاكم الذي كان أحد مؤسسيه. وعلى الخطى نفسھا، يسير رئيس الوزراء الأسبق أحمد داود أوغلو في طريق إعلان حزبه الجديد أيضاً. مولد الحزبين المرتقبين يشكل أوسع حركة انشقاق لرفاق أردوغان القدامى الذين شاركوه تأسيس حزب العدالة والتنمية، وكانوا من عوامل قوته خلال سنوات ازدھاره، وذلك قبل أن يبدأ رحلة تراجعه التي بلغت ذروتھا منذ التوجه إلى إقرار النظام الرئاسي عبر الاستفتاء في نيسان 2017، ثم الانتخابات المحلية في نھاية آذار العام الماضي، والتي تكبّد حزب أردوغان خسائر موجعة في كبريات الولايات التركية وفي مقدمتھا المعقل الأھم إسطنبول.

وسط ھذه التطورات الداخلية تتواصل التعقيدات في كثير من الملفات الخارجية، في مقدمتھا الخلافات المعلقة بين أنقرة وواشنطن، وإصرار تركيا على المضي قدما في تشغيل منظومة الصواريخ الروسية "إس 400"، وھو ملف ينتظر الاشتعال في أي وقت، حال قررت واشنطن فرض عقوبات على تركيا بموجب قانون مكافحة أعداء أميركا بالعقوبات "كاتسا" الذي يعاقب به من يتعاملون في مبيعات كبيرة للسلاح مع روسيا.

وبعدما تبنى مجلس الشيوخ بالإجماع قرارا يعترف رسميًا بـ"الإبادة الأرمنية" على يد الدولة العثمانية في العام 1915، ردت تركيا بالتھديد بطرد القوات الأميركية من قاعدة "إنجيرليك" الجوية وإغلاق قاعدة "كورجيك" للرادار، علما أن واشنطن متمسكة بالشراكة الاستراتيجية مع تركيا. وفي ھذا الإطار، وفي محاولة لرأب الصدع وتطوير العلاقات الاستراتيجية الطويلة المدى لمنع الانھيار في العلاقات التركية - الأميركية، يرى خبراء استراتيجيون أميركيون أن تطوير العلاقات العسكرية بين البلدين يجب أن يبقى ھدفا مركزيا لواشنطن، كما أنهم يرون أن الإطار الأكثر معقولية لضمان أمن تركيا ھو حلف شمال الأطلسي، مع التنبيه إلى ضرورة أن يكون الحلف على جاھزية لإمكانية خسارة قاعدة "إينجرليك" وقواعده الأخرى في تركيا.

وفي حين يستمر التوتر مفتوحا مع الولايات المتحدة بسبب صفقة "إس 400"، فإن الصفقة نفسھا تشكل إحدى ركائز التقارب التركي - الروسي، الذي يمتد أيضا إلى التنسيق في سوريا سواء في ما يتعلق بإدلب أو شرق الفرات أو العملية السياسية المتأرجحة، فضلا عن العلاقات الثنائية التي يسعى الطرفان للحفاظ على قوة الدفع فيھا لارتباطھما بمصالح اقتصادية أبرز جوانبھا التنسيق في مجال الطاقة.

أما علاقة أنقرة بالقاهرة، فقد ارتفعت درجة التوتر في الأسابيع الأخيرة بينهما الى مستوى المواجھة العسكرية بسبب تورط تركيا في الأزمة الليبية وتوقيعھا مذكرتي تفاھم مع حكومة فايز السراج، الأولى تمنح تركيا حق التنقيب عن النفط في مياه البحر المتوسط، والثانية تمنحھا حق إرسال السلاح والمقاتلين لدعم الجماعات الإسلامية وحكومة السراج. لذلك فإن القاهرة تراقب عن كثب وبتحفز الاختراقات التركية الخطيرة في الواقع الليبي، وبالأخص على طرف الحدود مع مصر، مع ما يعني ذلك من تعزيز لمنظومة الإرھاب التي تتسرّب من ھناك الى الداخل المصري، مرورا بمحاولات تعزيز نفوذ "الإخوان" في منظومة الحكم الليبية العتيدة، وصولا الى فرض أردوغان نفسه شريكا "إسلامويا سلطانيا" في الحل والربط في جميع القضايا والأزمات العربية.

فقد راھن أردوغان على محاباة الشريك الروسي واستمالته من بوابة رغبة موسكو في استعادة موقعھا التاريخي في الشأن الليبي. ولذلك استعجل توقيع اإتفاقية ترسيم الحدود البحرية مع بعض السلطة القائمة في طرابلس الغرب، مدعوما من تنظيم الإخوان المسلمين ھناك، كما أنه حاول إغراء ھذه السلطة بإمكانية إفراد موقع متقدم لليبيا المستقبل في منظومة توزيع النفوذ الدولي والإقليمي في إدارة منابع وخطوط إمداد الغاز- الطاقة المنافسة والبديلة للنفط بعدما اكتملت تقريبا المنظومة التي أنشأتھا الولايات المتحدة في شرقي البحر المتوسط، والتي تكوّنت من ست دول ھي مصر والأردن واليونان وقبرص وإيطاليا و"إسرائيل".

بينما في الشق الأوروبي، فقد سعت تركيا في مطلع الستينيات لتكون عضوا أوروبيا لكن لم يتم قبولھا، وقد رأت في منتصف التسعينيات أن دول أوروبا الشرقية قد انضمت إلى الاتحاد الأوروبي الواحدة تلو الأخرى، إلا أنھا لم تيأس من محاولات الانضمام، وما زال قسم من الأتراك يراھن ويأمل بذلك.

في الواقع، لم يعد جوھر الأمر أن تنظر الدول الغربية إلى تركيا كنموذج يُحتذى به بالنسبة إلى البلدان في الشرق الأوسط الكبير بسبب ھويتھا الإسلامية المعتدلة وتوجھھا العلماني الموالي للغرب والاندماج في الاقتصاد العالمي الرأسمالي في عصر يتراجع فيه الغرب وتتقدم الرأسمالية الصينية، وفي زمن أزمة الديمقراطية الليبرالية الموجھة نحو السوق الحرة في الغرب، وبدلا من الشعور بالرضا عن الھوية النموذجية التي عھد بھا الممثلون الغربيون منذ فترة طويلة إلى تركيا، أصبحت تسعى لرسم طريقھا لتحدد ما ھو مفيد لنفسھا.

فتركيا تقف على مفترق طرق لا تتخلّى عن الغرب الأوروبي لكنھا تخرج عن طوعه، ولا تعادي الولايات المتحدة لكنھا تتجرأ على مخالفتھا، وتتمرد عليھا إعلانا لاستقلالية القرار التركي، بعد أن اتھمتھا بالعبث بأمنھا الداخلي والاقتصادي، تقترب من موسكو لما فيه مصالحھا بعد نزال خسرته في عام 2015، واثقة بالقيادة الروسية من دون تنازلات سياسية كبيرة وبحذر الواثق لحاجة روسيا إليھا، لكنھا باتت مستعدة من أجل مصالحھا لقدر من التضحية بمشاريع حاكتھا بھدوء مع الغرب الأميركي تطال بؤر صراع قادھا إسلاميون في آسيا الوسطى والصين، حيث تتخذ أنقرة مبادرات جريئة لضمان أمنھا الإقليمي من خلال مزيج من المبادرات العسكرية الأحادية الجانب والتعاون الاستراتيجي متعدد الأطراف مع الجھات الفاعلة غير الغربية. كما أصبح الحكم على الفاعلين العالميين والإقليميين من خلال درجة التزامھم بمصالح تركيا الأمنية التقليدية وعملية التنمية الاقتصادية كلغة مشتركة جديدة في السياسة الخارجية التركية. وعلى الرغم من خطاب أردوغان الشعبوي الصاخب تبدو السياسة الخارجية لتركيا على الصعيدين العالمي والإقليمي مليئة بمحاولات السياسة الواقعية للتخفيف من الآثار السلبية للأزمات الخارجية على الاستقرار الداخلي. لكن، لم يقتنع أردوغان بعد أن الرقص على حبال التناقضات الإقليمية والحسابات الدولية مؤقت ولا يصنع معادلات ثابتة.

واشنطن

إقرأ المزيد في: آراء وتحليلات

التغطية الإخبارية
مقالات مرتبطة