آراء وتحليلات
بعد الإعلان عن "صفقة القرن".. ماذا عن التنفيذ؟
سركيس أبوزيد
"صفقة القرن" معطى جديد على ساحة الشرق الأوسط، ونقطة تحوّل في السياسة الأميركية حيال الصراع الفلسطيني - الإسرائيلي، وأيضا في مجرى ھذا الصراع، لمجرد أن الكيان الاسرائيلي، وبغض النظر عن مصير ھذه الخطة وما ستؤول إليه، سيعتمدھا أساسًا للتعاطي مع الفلسطينيين بعد اليوم، وسيتعاطى مع كل مكسب فيھا على أنه أمر واقع لا رجوع عنه. بينما الولايات المتحدة، ليست المرة الأولى التي تتعاطى فيھا مع الصراع الفلسطيني - الإسرائيلي، بعدما توقف التعاطي مع الصراع العربي - الإسرائيلي عند اتفاقيتي "كامب ديفيد" مع مصر، و"وادي عربة" مع الأردن. ومنذ وصول الرئيس الأميركي دونالد ترامب الى البيت الأبيض، حدد ھدفًا رئيسيًا له في الشرق الأوسط، إضافة الى احتواء إيران، ھو إيجاد حل سياسي شامل لأزمة الصراع الفلسطيني - الإسرائيلي، وشرع في وضع خطة متدرجة عُرفت لاحقا بـ"صفقة القرن" مھد لھا بخطوات عملية ھي أشبه بخدمات وھدايا لـ"إسرائيل"، وتمثلت بداية بإعلانه القدس عاصمة لـ"إسرائيل" ونقل السفارة الأميركية إليھا، وصولًا الى مصادقته على ضم الجولان السوري المحتل وشرعنة الإدارة الإسرائيلية للمستوطنات.
وفي خضم انشغاله بالمواجھة مع إيران، أوفد ترامب مبعوثه الخاص الى الشرق الأوسط "أفي بركوفيتش" الى الكيان مطلع ھذا العام للبحث في إمكانية الإعلان عن تفاصيل الخطة الأميركية بعد تأجيل متكرر لھا لعدة أسباب كان من أبرزھا إعادة الانتخابات الإسرائيلية لمرة ثالثة. وإثر ذلك، أخذ ترامب قراره باستدعاء نتنياھو وغانتس الى واشنطن عن طريق دعوة رسمية نقلھا نائبه "بنس" لحضور حفل الإعلان عن الجانب السياسي من "صفقة القرن"، بعدما كان الإعلان عن الجانب الاقتصادي منھا تم في "ورشة المنامة" منتصف العام الماضي.
حملة "التسويق السياسي" عشية انتخابات إسرائيلية مفصلية وحاسمة بالنسبة لنتنياھو حليف ترامب، أعطاه جرعة دعم، فما يريده ترامب فعلا من ھذا الإعلان المفاجئ عن "صفقة القرن"، وفي ھذا التوقيت السياسي "المشبوه" قبل أسابيع من الانتخابات الإسرائيلية، ھو إنقاذ حليفه نتنياھو الذي يواجه متاعب داخلية وضغوط محاكمته القضائية في قضايا فساد، وتعويم وضعه وتحسين فرصه في الفوز. والمفارقة ھنا أن ترامب نفسه يواجه ضغوطا من ھذا النوع أيضا، واللجوء الى "صفقة القرن" يساعده في التخفيف من ھذه الضغوط وتحويل الأنظار عن محاكمته في الكونغرس.
أما أبرز ما جاء في المضمون السياسي الأمني لـ"صفقة القرن" فھو:
1 - "إسرائيل" دولة قومية لليھود لديھا حدود آمنة ومُعترف بھا، وسيكون غور الأردن تحت سيادتھا، وتكون القدس الموحدة عاصمة لھا.
2 - إنشاء دولة فلسيطينية تكون عاصمتھا جزءًا من القدس الشرقية الواقع في كل الأراضي شرق وشمال الجدار الأمني الحالي، بما في ذلك كفرعقب وشعفاط وأبوديس، ويمكن تسميتھا القدس أو أي اسم آخر تحدده دولة فلسطين التي "عليھا السيطرة الكاملة" على غزة و"نزع سلاح" حركتي المقاومة حماس والجھاد.
3 - بالنسبة للاجئين الفلسطينيين في الشتات، تنص الصفقة على أنه لن يكون ھناك أي حق في العودة أو إاستيعاب لأي لاجئ فلسطيني في ما يسمى زورا "دولة إسرائيل"، وأن ھناك ثلاثة خيارات أمام اللاجئين: الذھاب الى دولة فلسطين، أو الاندماج المحلي في البلدان المضيفة، أو إعادة توطينھم في دول إسلامية.
كما تنص الخطة على عدد من مقايضة وتبادل الأراضي، بما في ذلك تبادل أرض جنوب قطاع غزة ومنح الفلسطينيين المزيد من الأراضي عند الحدود المصرية، لكن ستبقى الأراضي خاضعة للسيطرة الأمنية الإسرائيلية، وتحتفظ "إسرائيل" بالسيادة على غور الأردن شرق الضفة الغربية، وتضع الخطة سبلا لبناء أنفاق تربط بين الضفة الغربية وقطاع غزة. وتدعو الخطة "إسرائيل" إلى وقف بناء أي مستوطنات جديدة في المناطق المتنازع عليھا لمدة 4 سنوات.
في اليوم التالي لإعلان "صفقة القرن" برز نوعان من المواقف وردود الفعل الأميركية:
- الأول صادر عن جھات سياسية وإعلامية معارضة للرئيس ترامب، لا سيما في صفوف الحزب الديمقراطي، وفيه تشكيك بدوافع إعلان الخطة في ھذا الوقت وظروفھا وإمكانات نجاحھا لأنھا خطة غير عادلة وتعطي "إسرائيل" كل ما تريده وتفرض على الفلسطينيين شروطا قاسية، ولأن "السلام" يتطلب وجود الطرفين على طاولة الحوار، والبيت الأبيض لم يتفاوض على الخطة إلا مع الإسرائيليين، والخطة لن تحقق شيئا، وھي خدمة خالصة لنتنياھو الذي يواجه تحقيقا رسميا بتھم الفساد. وأفضل من عبّر عن ھذه الفكرة صحيفة "نيويورك تايمز" التي كتبت تقول إنھا خطة تبدو أشبه بـ"خريطة طريق" لمستقبل ترامب نتنياھو الشخصي وليس لمستقبل الشرق الأوسط، ترامب الذي حوّل حفل الإعلان عن الخطة الى مھرجان انتخابي لرئيس الحكومة الإسرائيلية.
- الثاني صادر عن فريق ترامب الذي تصدّره صھره مھندس الصفقة جاريد كوشنير متوجھا الى الفلسطينيين بعدم تفويت ھذه الفرصة الثمينة والأخيرة، ولن يحصلوا على أفضل منھا، معتبرا أن "صفقة القرن" ھي "فرصة العمر" بالنسبة للفلسطينيين.
وفي وقت يعبّر ترامب عن أمله في أن يقبل الفلسطينيون الصفقة ويوافقوا عليھا و"يفرحوا بھا"، فإن القوى الفلسطينية تُؤكد أن الصفقة لن تمر، وأنھا قادرة على إسقاطھا كما أسقطت المشاريع السابقة، في نفس الوقت فإنها تتوقع أن يراھن ترامب على فوزه بولاية ثانية كي يعمد خلالھا الى الضغط على الفلسطينيين للعودة الى طاولة المفاوضات وقبول "الصفقة". كما أن ھناك رھانا أميركيا على موقف الدول العربية، وأفضل من عبّر عن ھذا الرھان دنيس روس الموفد الخاص للسلام سابقا في الشرق الأوسط، إذ قال: "الخطة ستعتمد بشدة على ردود فعل القادة العرب، فإذا اعتبر عدد من الزعماء العرب أن الخطة جيدة، عندھا قد يكون لھا أرجل بغض النظر عن الرفض الفلسطيني".
الاھتمام الأميركي جارٍ خصوصًا بموقفي كل من مصر والأردن لأنھما الدولتان العربيتان الموقعتان على اتفاقية سلام مع "إسرائيل" والمجاورتان للدولة الفلسطينية، ولھما التأثير الأقوى على السلطة الفلسطينية، ولأن الرھان الأميركي على الدول العربية والخليجية المناھضة لإيران، ھو رھان أساسي، حيث تستند إدارة ترامب في رھانھا على الموقف العربي الى نتائج لقاءات واتصالات سبقت إعلان "صفقة القرن" ومھّدت لھا، وأسفرت عن وعود وتعھدات سعودية بالمساھمة في تمويل الخطة، وجاءت ردود الفعل العربية الأولية لتؤكد على المنحى الإيجابي للموقف العربي الذي تمحور حول "تقدير جھود السلام الأميركية والترحيب بھا، ودعوة الفلسطينيين الى التفاوض مع الإسرائيليين حول "صفقة القرن"".
أما لبنان، فھو مثله مثل الأردن طرف عربي معني مباشرة بنتائج وأعباء ھذه الصفقة التي تضرب حل الدولتين وتلغي المبادرة العربية للسلام التي أُقرّت في بيروت، ف
"صفقة القرن" ھي في الواقع"صفقة" فالرئيس ترامب ينظر الى الصراع في المنطقة ويتعاطى معه من خلفية "رجل أعمال" ويلعب بشكل واضح وفاضح ورقة الإغراءات والحوافز المالية والاقتصادية. مھندسو "صفقة القرن" وواضعو تفاصيلھا الدقيقة لا يظھرون اھتماما بمكوّنات الصراع وجذوره وأبعاده التاريخية والدينية والإاجتماعية، والحقوق المشروعة ليست الأساس وإنما النتائج والمكاسب، وأبرزھا ما يتعلق بالتطبيع بين "إسرائيل" والدول العربية ومستقبل العلاقات الاقتصادية بين "إسرائيل" ودول مجلس التعاون الخليجي.
"صفقة القرن" أُعلنت، لكن ماذا بعد الإعلان؟ ماذا عن التنفيذ؟ ھل ولدت ھذه الصفقة ميتة لأنھا لا تتناسب مع الواقع، ولو شدد ترامب على أنھا خطة عملية وواقعية؟ المؤشرات الأولية كلها تبدو متناقضة، وتوحي بأن "المنطقة" دخلت مرحلة جديدة وما بعد إعلان "صفقة القرن" ليس مثل ما قبله.
إقرأ المزيد في: آراء وتحليلات
21/11/2024
خطاب الأمين: قوةٌ وتمكين ونصرٌ وتطمين
19/11/2024