آراء وتحليلات
التظاهرات في لبنان بين العفوية والتسييس.. راقبوا الاعلام (1)
محمد محمود مرتضى
منذ السابع عشر من شهر تشرين الأول الماضي، تعيش الساحة اللبنانية تطورات كبيرة تتعلق بقيام بعض الحشود بالتظاهر وقطع الطرقات احتجاجا على السياسات المالية والاقتصادية القائمة في البلاد منذ ما يقارب ثلاثة عقود من الزمن.
ورغم أن التظاهرات انطلقت بشكل "شبه عفوي" احتجاجا على مشروع يتعلق بفرض ضريبة على المكالمات الهاتفية بواسطة تطبيق "الواتساب"، الا أن هذا الحراك توسعت مطالبه ليشمل اسقاط "النظام" بكافة مؤسساته الدستورية (رئاسة الجمهورية، والمجلس النيابي، والحكومة).
صحيح أنه خلال الايام الاولى للحراك، بدت عليه العفوية التي يمكن ملاحظتها من خلال "تشتت" المطالب وعدم وضوحها؛ لكن، والحق يقال، فإن قيام بعض وسائل الاعلام "المشبوهة" بقطع جميع برامجها، ووقف عرض جميع اعلاناتها، أخذت تثير علامات استفهام كبيرة حول مدى "عفوية" هذا الحراك، وشفافيته، لا سيما أن وسائل الاعلام هذه ليست جمعيات خيرية لتتحمل أكلاف قطع اعلاناتها، وفتح الهواء طوال ساعات النهار حتى ما بعد منتصف الليل في نقل مباشر من مناطق عدة. لينطلق بعد ذلك الحديث عن خروج التظاهرات عن عفويتها، لحساب طروحات ومشاريع سياسية وامنية واقتصادية تابعة لجهات خارجية. ثم سرعان ما اتضح دخول أحزاب لبنانية بشكل مباشر على خط الحراك لقطف ثماره، خصوصًا فيما يتعلق بمحاولة شل البلاد عبر تقطيع أوصاله عن طريق قطع الطرقات الرئيسية التي تشكل شريان الاتصال بين المناطق اللبنانية الرئيسية.
صحيح أن اثبات وقوف جهات خارجية يحتاج الى معلومات، الا أن ذلك لا يُضعف من حجة تجميع بعض العلامات الفارقة، والسلوكيات الواضحة، والتي لا يمكن بأي شكل من الأشكال أن نعتبر أنها مجرد مصادفة مع "حراكات" أخرى جرت في أماكن عدة من الكرة الأرضية. ولئن كنا لسنا من أصحاب نظرية المؤامرة، فإننا، وبالقوة نفسها، لا نقبل أن نكون من أصحاب نظرية الصدف المتكررة.
في هذه الورقة المكونة من أجزاء عدة سنحاول تجميع قدر مقبول ومعقول من الاشارات والعلامات التي تثبت أن ما يجري من حراك في الشارع اللبناني قد تجاوز حدود "العفوية"، ليدرج تحت عنوان: التوجيه والتحكم بالحراك. على أن كلامنا هذا لا يعني أن كل من نزل أو ينزل الى الساحات يعمل وفق أجندة أجنبية (أمريكية أو سعودية أو اماراتية)، وانما نقصد أن ثمة جهات خلف الستار تحرك الجموع بطريقة مباشرة للبعض، وغير مباشرة لآخرين، فيما المخلصون من المتظاهرين باتوا قلة خرجوا من دائرة القدرة على التأثير.
أولا: راقبوا الاعلام:
في القرن الماضي كتب "غوستاف لوبون" (صاحب الكتاب الشهير: سيكولوجيا الجماهير): "الحشد يفكّر عبر الصور، والصورة المحفّزة في المخيّلة تحفّز بدورها صوراً أخرى ليس لها أي صلة منطقيّة بالأولى... الحشد قادر على التفكير عبر الصور فقط، إنه حساس تجاه الصور وحسب. وحدها الصور تستهويه أو تولّد فيه الرعب أو تصير محركات السلوك فيه". ثم يعود ليتحدث في مكان آخر عن الصلة بين الكلمة والصورة: "يتصل جبروت الكلمات اتصالاً وثيقاً بالصور التي تحفزها ولا يرتبط مطلقاً بمعناها الحقيقي. تترك في أحيان كثيرة، كلمات ليس لها أي معنى محدد، تأثيراً كبيراً في الحشد". هذا الدور للصورة بدا واضحاً بشكل جلي حول العالم، وقد لعب الاعلام المرئي دورا كبيرا في كثير من "الثورات"، حتى ظنت بعض المحطات العربية، بعد التجربة المصرية، أنها قادرة على الاطاحة بأنظمة قائمة وقوية، عبر الصورة.
لكن الحكم على الدور الذي تلعبه الصورة ليس حكما مطلقا، ولا هو دور محايد يقوم بنقل الصورة كما هي، ولا تكمن أهميته في الفبركة الوقحة التي تعتمد على التلاعب بالمشهد، بقدر ما تكمن في عملية ابتكار المشهد والعملية الانتقائية التي تتم بعيدا عن أعين المشاهدين.
بالعودة الى الحراك اللبناني، فإن القنوات التلفزيونية التي كانت أبدت اهتماما غير عادي بالحراك، عمدت الى عمليات نقل مبرمج، تبدو عليه، بحسب الظاهر أنه عفوي ومباشر ولا يخضع للضوابط، الا أن هذا الامر سرعان ما يكتشف المتابع زيفه. فالمقابلات مدروسة بعناية، والمربعات التي يختارونها من الساحات معروفة التوجه. اذ إن الحراك لم يكن يتمتع بهوية واحدة، ولا المطالب كانت موحدة. ولئن كان المشهد من أعلى يبدو واحدا، الا أن الساحة أفرزت مجموعات أخذت تتكتل في جزر ومساحات خاصة بها.
كان الاعلام يذهب الى ساحات محددة تخدم أهداف المحطة والممولين لها، لكن هذه الصورة النمطية من "الاعتراضات" العنيفة والتي حاولت القنوات تقديمها سرعان ما تهشمت عند أول "غزوة" قام بها شاب أو فتاة للكاميرا وصرح بما لا يتناسب مع الميول، أو مع المشهد الذي يراد ايصاله، وغالبًا ما كان البث يقطع، أو المراسل يعتذر، أو الانتقال يتم الى ساحة أخرى.
كان الاعلام يسعى قدر المستطاع لانتقاء الاشخاص بعناية، وهو انتقاء ارتبط اولا وأخيرا بطبيعة الرسالة التي يريد صاحبها ارسالها، ولم يكن المعيار يومًا نابعًا من أي قيمة أخلاقية. فلا غرابة، والحالة هذه، أن يبث كمًّا هائلًا من الشتائم على الهواء مباشرة، فيما التصريحات المعارضة للتوجهات تُحجب.
ان عملية بث مطالب "بسيطة" جدا على الهواء، مع ذلك الكم الهائل من الشتائم لشخصيات محددة كانت تهدف الى أمرين: الأول تأكيد فكرة عفوية الحراك، والثاني (وهو مختص بالشتائم) عملية تنميط ممنهجة ضد شخصيات محددة بهدف ازالة "القداسة" عنها عبر جرعات متفاوتة ومتباعدة من الهجوم البذيء.
إن المتتبع لسلوك بعض وسائل الإعلام يشعر كما لو أنها تخوض حربًا ضد كل ما هو جاد. دون أن ننسى أن هذه المحطات نفسها بنت "شعبيتها من خلال ساعات طويلة من برامج الترفيه بأشكالها المختلفة مع تركيز على الجوانب الاباحية بشكل دقيق.
الا أن الدور الأخطر الذي لعبته تلك القنوات التلفزيونية، اضافة الى محاولات بث الفتنة، أنها لجأت الى عمليات تلقين في كثير من تغطيتها. فالمراسل بدا وكأنه يلقن مَن أمامه بطبيعة الاجابة التي ينبغي أن يجيب بها عن السؤال.
ومهما يكن من أمر، فإن الادعاء بوجود إعلام محايد تبدو فكرة همايونية مثالية، فيما الواقع يشير إلى أن الاعلام، برمته، موجّه، لكن الذي يختلف هي درجة التوجيه والمساحة المتاحة لإدارة كل محطة، وبالتالي انقسام الاعلام الى موجه بشكل مباشر وموجه بشكل غير مباشر لا أنه ينقسم الى موجه وغير موجه.
إقرأ المزيد في: آراء وتحليلات
23/11/2024
لماذا تعرقل واشنطن و"تل أبيب" تسليح العراق؟
21/11/2024