آراء وتحليلات
البريكست البريطاني والمخاض العسير
سركيس أبوزيد
على مدى أربعة عقود تقريبًا، لم تشاهَد بريطانيا في ورطة وتخبط مثلما يحدث ھذه الأيام. بريطانيا تعيش أزمة عميقة عمودية حول مسألة الخروج من الاتحاد الأوروبي، وتبدو مشلولة تمامًا وعاجزة عن التوصل إلى مخرج توافقي بشأن أزمة "بريكست". فقد اتخذت لندن قرار الخروج من الاتحاد الأوروبي بموجب استفتاء شعبي جرى في 23 حزيران 2016، وبدأت بعده مفاوضات مع بروكسل، عبر تفعيلها للمادة 50 من اتفاقية لشبونة، التي تنظم إجراءات الخروج من الاتحاد. وكان من المقرر أن تغادر المملكة المتحدة رسميًا في 29 آذار الماضي، لكن تم التأجيل جراء عدم التوصل إلى اتفاق نهائي ينظم تلك العملية، إثر رفض البرلمان البريطاني.
قرار الخروج الذي بدا سھلًا في البداية، اتضح أنه كان بداية واحدة من أخطر الأزمات التي تواجه بريطانيا وتھددھا، ليس سياسيًا واقتصاديًا فحسب، بل على مستوى الوحدة التي تربط أقاليمھا الأربعة، إنكلترا واسكتلندا وويلز وأيرلندا الشمالية. ولا يبدو أن الأزمة السياسية المشتعلة منذ قرابة أربعة أعوام باسم "بريكست" ستنتھي، بل سينتج عنھا ذيول وتعقيدات تتجاوز موضوع "بريكست"، تصل إلى جذور العملية السياسية، وانقسامات مجتمعية وحزبية صعبة الترميم.
ومع تولّي رئيس الوزراء البريطاني بوريس جونسون السلطة في 24 تموز الماضي، وتعنته بشأن استراتيجيته لـ"بريكست" دخلت البلاد في أزمة سياسية غير مسبوقة، أدت الى إنقسام بين الأحزاب وفي داخلھا، وبين مكوّنات بريطانيا السياسية، فايرلندا الشمالية وغالبية اسكتلندا تعارض الانسحاب وتھدد بفرط العلاقة الاتحادية مع إنكلترا.
جونسون بنى زعامته على تعھده بإتمام "بريكست" بأي ثمن، بعدما تأجل مشروع الانسحاب مرتين جراء رفض البرلمان، مؤكدا أنه يعارض طلب بروكسل إرجاء موعد "بريكست" ومستعد لإخراج البلاد من الاتحاد الأوروبي في الموعد المحدد سواء باتفاق أو بلا اتفاق.
يُصرّ جونسون على مواقفه من "بريكست"، رغم إعلان وزيرة العمل والمتقاعدين آمبر رود استقالتھا من الحكومة الغارقة في أزمة سياسية. وقالت وزيرة العمل في بيان: "لا يمكنني أن أبقى بينما يتم استبعاد محافظين جيدين ومخلصين ومعتدلين"، في إشارة منھا إلى قرار جونسون إقالة 21 نائبا متمردا من الحزب المحافظ، صوتوا مع المعارضة لصالح مشروع قانون إرجاء "بريكست" في مجلس العموم.
ضربة قوية أخرى لرئيس الحكومة الذي لم يعد يملك أغلبية في البرلمان الذي عطل استراتيجيته بشأن "بريكست". فقد تبنى النواب، ثم أعضاء مجلس اللوردات، مشروع قانون يجبره على تأجيل موعد خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي.
أما الھزيمة الأخرى الجديدة التي مُني بھا جونسون، فتمثلت في إجباره على نشر وثيقة داخلية تقيّم الأوضاع في بريطانيا في حالة خروجھا من الاتحاد الأوروبي من دون اتفاق. وأظھرت الوثيقة أن بريطانيا قد تواجه نقصا في الأدوية والمواد الغذائية إذا خرجت من الاتحاد الأوروبي من دون اتفاق.
احتمالات "بريكست" من دون اتفاق يؤھل بريطانيا للدخول في دائرة الركود لأول مرة منذ الأزمة المالية ستلحق أضرارا جسيمة ببريطانيا، ومن المؤشرات، تراجع الجنيه الإسترليني، وھو سيناريو يقلق خصوصًا الأوساط الاقتصادية، كما تراجعت ثقة المستھلك في آب الماضي لأدنى مستوى في 6 سنوات، في ظل مخاوف البريطانيين من تأثير خروج بلادھم من الاتحاد الأوروبي من دون اتفاق على أوضاعھم المالية. وتأتي مؤشرات الركود متزامنة مع مخاوف أخرى، حيث حذرت دراسة صادرة عن مؤتمر الأمم المتحدة للتجارة والتنمية (أونكتاد) من تعرض اقتصاد بريطانيا لخسائر تصل إلى 16 مليار دولار إذا غادرت الاتحاد الأوروبي من دون اتفاق. وھذه الخسائر ستكون أكبر، بسبب التدابير غير الجمركية وضوابط الحدود وما يترتب على ذلك من تعطيل لشبكات الإنتاج الحالية بين المملكة المتحدة والاتحاد الأوروبي.
في موازاة ذلك، تبدي المفوضية الأوروبية استعدادھا للنظر في كل الاقتراحات البريطانية للتوصل إلى اتفاق، وخصوصًا في شأن قضية الحدود الآيرلندية الشائكة التي تتعثر حولھا المفاوضات، علما أن البند الأكثر إثارة للجدل في الاتفاق الحالي ھو "شبكة الأمان" الھادفة لضمان بقاء حدود آيرلندا الشمالية مفتوحة، مھما كانت الظروف بعد "بريكست"، وھو يُعد أقصى درجة من المرونة التي يمكن للاتحاد الأوروبي تقديمھا. في المقابل رفض جونسون ھذا البند جملة وتفصيلا، ويعتبره غير ديمقراطي ويمس بسيادة الدولة البريطانية، لأنه يتطلب منھا مواصلة تطبيق قوانين الاتحاد الأوروبي خلال الفترة الانتقالية، ويمنعھا من اتباع سياسة تجارية مستقلة عن الاتحاد الأوروبي. وتحدّت دول الاتحاد الأوروبي جونسون أن يجد بديلا قابلا للتطبيق لخطة "شبكة الأمان الآيرلندية"، التي يصر على شطبھا. وفي ظل المأزق الراھن، عرضت المفوضية تدابير طارئة جديدة في حال حصول "بريكست" من دون اتفاق، تُضاف إلى سلسلة اقتراحات قدمتھا في الأشھر الأخيرة. والھدف من ذلك تأمين دعم مالي للأفراد والدول الأعضاء الأكثر تضررا بخروج من دون اتفاق، أي آيرلندا وألمانيا وھولندا وفرنسا خصوصا.
ومؤخراً، أعلن رئيس المجلس الأوروبي دونالد توسك أن دول الاتحاد وافقت على منح بريطانيا "تأجيلا مرنا" لمدة ثلاثة أشهر للخروج من التكتل، وقال توسك عبر "تويتر" إن دول "الاتحاد الأوروبي اتفقت على أنها ستوافق على طلب بريطانيا تمديد مهلة البريكست حتى 31 كانون الثاني 2020"، مشيرا إلى أن الانسحاب قد يتم في حال التوصل إلى اتفاق قبل ذلك الموعد. في المقابل، رفض مجلس العموم البريطاني بأغلبية 299 صوتًا مقابل 70 صوتًا، محاولة جونسون الجديدة لإجراء انتخابات مبكرة يوم كانون الأول المقبل. وأدى عجز بريطانيا عن فك ارتباط عمره نصف قرن مع الاتحاد الأوروبي إلى وقف الاستعدادات الباهظة لخيار الخروج من دون اتفاق، ومن بينها مشروع لسك قطعة نقدية تذكارية للمناسبة بقيمة خمسين سنتًا.
اليوم تخوض بريطانيا معركة تحديد خياراتھا للعقود القادمة، من ھنا تأتي حدة الأزمة. فخروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي يزداد صعوبة يوما بعد يوم، وتتأرجح السيناريوھات المحتملة ما بين خروج من دون اتفاق، أو التخلي عن الفكرة برمتھا. لا يعرف حتى الآن كيف سيستطيع جونسون في ظل ھذه المستجدات، الاستمرار في سياسته في ما يتعلق بخلافه مع الاتحاد الأوروبي بشأن خروج بريطانيا من الاتحاد. ولكن الثابت أن الأزمة السياسية في بريطانيا ليست كالأزمات السابقة، ولا يبدو أن الحياة السياسية ستعود إلى سابق عھدھا، كما لا يبدو أن حزب المحافظين سيعود كما كان، والأغلب أنه سيتمخض عن ھذه الأزمة الطاحنة واقع سياسي جديد.
إقرأ المزيد في: آراء وتحليلات
23/11/2024
لماذا تعرقل واشنطن و"تل أبيب" تسليح العراق؟
21/11/2024