آراء وتحليلات
ماذا لو قَبِلت المصارف مبادرة السيد نصر الله؟
محمد علي جعفر
"نحن أهل بلد واحد وسفينة واحدة، فيا اصحاب المصارف في لبنان، اذا لم تتعاونوا وانهار الوضع المالي والاقتصادي فما هو مصيركم ومصير استثماراتكم؟".
بهذه الكلمات خاطب الأمين العام لحزب الله السيد حسن نصر الله المصارف اللبنانية خلال شهر أيار/ مايو المنصرم. حينها كانت المرة الأولى التي يُوجِّه فيها زعيم سياسي لبناني رسالة واضحة للمصارف جاءت كتعبيرٍ عن "القلق من الوضع الذي وصل اليه الإقتصاد اللبناني، وتأثيرات ذلك على لبنان كدولة والوضع المعيشي للمواطن اللبناني" (يمكن مراجعة مقال لنفس الكاتب نشره موقع "العهد" تحت عنوان "رسالة السيد نصر الله للمصارف: مبادرة بحجم وطن"!).
بين الجدية واللامسؤولية والتجيير في لعبة الحسابات والتجاذبات، تنوعَّت ردات الفعل على الخطاب حينها. اليوم يقف لبنان وجميع الأطراف اللبنانية أمام مفصل تاريخي يواجه فيه الجميع معضلة التعاطي مع تحديات سياسية وأزمات إقتصادية لا شك أنها أكبر من لبنان، لكنها ليست مستعصية. والنقاش الدائر حول ما وصلت اليه الأمور اليوم، وما قد تحمله الأيام المقبلة يتركز على السلوك المتوقع لحزب الله وحلفائه في ظل هذا الوضع الراهن. لكن وللأسف يُخطئ البعض في وضع الأمور ضمن إطارٍ ضيق وليس بحجم الوطن!
عندما حلَّت أزمة المصارف والعقوبات الأمريكية على لبنان، لم تدفع الصراحة والمصداقية أحداً، للتذكير بنصائح السيد نصر الله. هي نصائح كثيرة يُدرك من يفقه منطق إدارة الدولة تلازمها مع أسس الحكم وما تعنيه سيادة الدول! اليوم تخرج تحليلاتٌ عدة لسلوك حزب الله المتوقع، وتساؤلاتٌ عن توجهاته وإطارها الإستراتيجي، وكلامٌ كثير يُقال. يدخل كل ذلك في إطار التحليل السياسي المُعتاد. لكن الأزمة التي تعيشها الدولة اليوم أزمة غير تقليدية وتحتاج لمقاربة مختلفة. مقاربة تنطلق من عقلية تبني تحليلاتها على أسس وقيم وطنية أكبر من زواريب السياسة اللبنانية التافهة. تقول هذه المقاربة: أن ما يجري اليوم وما قد يجري في الأيام المقبلة، يجب وضعه ضمن سياق مبني على الواقعية السياسية والتي تنطلق من حسابات المخاطر التي تواجه واقع المواطن اللبناني ومنها ما يتعلق بالشأن العام وهمومه المعيشية. هذه هي المقاربة التي يعتمدها حزب الله، دون أن نتجاهل ما بات يعرفه الجميع من أرباب السياسة في لبنان والمنطقة والعالم، أن حزب الله هو المعني الأساسي في أي تحدٍ يواجهه لبنان، ليس لمجرد أنه عرَّاب السياسة اللبنانية اليوم ويُمثِّل شريحة واسعة من اللبنانيين فحسب، بل لأنه المستهدف الأول من المؤامراتٍ التي تُحاك ضد لبنان!
وفي قراءة واقع حال لبنان لا يجب أن نغفل عن أن العالم يعيش اليوم ظروفاً مُعقدة باتت تشغل أرباب السياسة بمصالح حجمها أكبر من الدول!
وفي النتائج قد تضيع بعض الأطراف وتُشطب من ضمن لائحة الحسابات! فهل المطلوب أن ينتظر اللبنانيون وضوح الاتجاهات الدولية المتشابكة؟ وهل يُراهن البعض على حنان وغيرة أيٍ من الدول العربية والتي تقع بأسرها تحت وطأة أزماتٍ وجودية؟ هذه الأسلة تدل على الإطار الذي يقارب فيه أهل السلطة في لبنان أزمات الدولة! لكن الجديد هو في مقاربة حزب الله.
مقاربة حزب الله قد لا تتلاءم مع العقلية السائدة في الحكم. لغة الانصياع للمؤامرات الدولية ونكهة التملُّق لا تتلاءم مع قيم الحزب. هي في الحقيقة لا تتلاءم أيضاً مع منطق الدولة. وخيارات الرضوخ المُلونة بالإجراءات "التعسفية" ضد مواطنين لا علاقة لهم، لا تتطابق مع مفاهيم حقوق المواطن في أي دولة. يتفق الجميع اليوم على أن الواقع المالي في البلاد يحتاج للمعالجة. لكن المشكلة في الآلية! وهي المشكلة التي لن تجد لها حلاً طالما يغيب التوافق بين اللبنانيين على تحديد مصلحتهم! هي المعضلة التاريخية التي يعيشها لبنان وما زال!
في الحيثيات يقتنع الجميع بأن المشكلة الاقتصادية في لبنان، ترتبط بالسياسات المالية والنقدية للدولة والمصرف المركزي وسلوك المصارف، وهو ما يعود لحقبة الخمسينيات من القرن الماضي. وعلاقة المصارف بذلك هو في دخولها لعبة المؤامرة على مصالح الدولة وبالتالي المواطن! فنموذج الاقتصاد اللبناني كاقتصاد ريعي استهلاكي، هو نموذج ضعيف، قائم على الإيداعات، بدلاً من استثمار الأموال لخدمة عمليات التنمية والنهوض بالدولة وقطاعاتها. فهل المطلوب أن يبقى اللبنانيون تحت رحمة أرباب المال؟ وفي حال اتفقنا أن المشكلة هي في تحمل كلفة الإصلاح المالي فلماذا لا تقوم المصارف بتحمل كلفةٍ تتلاءم مع حجمها وقدرتها وتُنقذ البلاد والعباد؟
تُعتبر المصارف أقوى القطاعات في لبنان، دون أن تكون قوتها لصالح الدولة والمواطن. في حين يحكم الدولة بعض أصحاب المصالح المشتركة مع المصارف. ولم يكن هؤلاء بعيدين عن افتعال الأزمات المعيشية المتتالية والتي كان منها اهتزاز الوضع النقدي في الأسابيع الأخيرة. من هنا تبدأ قصة الواقع المزري في الحكم والحاجة لأساليب مغايرة في الدفاع عن حقوق المواطن! ومن هنا تتضح نوايا البعض في الإتجار بالأزمات لأهداف سياسية وحسابات ضيقة.
اليوم باتت تتناقض مصلحة الدولة والوطن مع مصلحة أصحاب الأموال. وباتت تنعدم الخيارات الحقيقية والمؤثرة، طالما أن أصحاب الحلول لم يُفكروا بعد بتقديم التنازلات لما فيه صالح الدولة والمواطن ومستقبل البلاد. المشكلة اليوم هي بين أطراف ضمن الطبقة السياسية يُمعنون في تجيير مصالح الدولة لحساباتهم ويتقنون السياسات التي لا تتلاءم مع مصلحة الشعب، في وقت يواجه فيه لبنان تحديات عديدة سياسية واقتصادية. ألا يجعل هذا هؤلاء شركاء في المؤامرة على الوطن والدولة؟
قد يختلف اللبنانيون في النقاش حول الخلفيات والإجراءات لكن لا يجب أن يختلف اللبنانيون على اعتبار ما يجري اعتداءً على لبنان ومصالحه القومية وسيادته المدنية. فالحرص على سيادة ومصلحة النظام المالي في لبنان لا يتطابق مع سياسة التناغم مع الإجراءات الأمريكية والذهاب بعيداً في الإجراءات والتي كان آخرها مسألة "إقصاء جمال تراست بنك" التي لم تكن ضد حزب الله بقدر ما كانت ضد المصارف!
بطبيعة الحال لن يقِف حزب الله مُتفرّجاً على سياسة الانصياع وإدخال البلاد في نفقٍ مجهول. ومن موقع الغيرة على الدولة والوطن، ومن موقع الواجب أمام شعبٍ بات يُهدد بمعيشته ورزقه، يجد حزب الله نفسه معنياً. يمكن القول إننا أمام مرحلة جديدة، تتحدد ملامحها في المستقبل القريب. لكنها مرحلة تأتي ضمن سياقٍ من المبادرات التي كان من ضمنها مبادرة السيد نصر الله منذ خمسة أشهر والتي توجه بها للمصارف متسائلاً: "يا اصحاب المصارف في لبنان، اذا لم تتعاونوا وانهار الوضع المالي والاقتصادي فما هو مصيركم ومصير استثماراتكم؟".
واليوم يجب أن يتساءل الجميع: ماذا لو قَبِلت المصارف مبادرة السيد نصر الله؟
إقرأ المزيد في: آراء وتحليلات
23/11/2024
لماذا تعرقل واشنطن و"تل أبيب" تسليح العراق؟
21/11/2024