نقاط على الحروف
جي دي فانس مرشح ترامب نائبًا للرئيس.. من هو؟ ومن يمثل؟
يستغرب العالم كيف استطاع رجل مثل دونالد ترامب اجتياح النقاط والاستفتاءات ليصبح مرشح الحزب الجمهوري بقوة وعلى الرغم من أنف الحزب الذي يمثله.
لم يأت دونالد ترامب من أحد بيوتات النخب السياسية المعروفة بين الجمهوريين، بل فُرض عليهم فرضًا. والمتابع للصحافة الرسمية ووسائل التواصل الاجتماعي ولمقاطع الفيديو والوثائقيات التي تتحدث عن الرجل، سيرى كيف أن هذا الرجل قد تسلق الحزب ليصبح على رأس هرمه من خلال فهمه لما يريده المجتمع الأميركي، وليس النخب الأميركية. ويذكرنا مشهد صعوده الانتخابي برواية "رحلات غوليفر" المسماة باسم بطل الرواية، الذي يصل إلى أرض الأقزام، ويصعد جبالهم وكأنها كثبان صغيرة وهم يتراكضون بين قدميه. وعندما استطاع ترامب كسب ثقة الأميركيين رضخ الحزب الجمهوري لأن مصلحته في فوز انتخابات 2024. وأطلق لترامب العنان مسلحًا بنائب مثل جي دي فانس، لمنصب نائب الرئيس، وهو القادم من قلب الجمهور الذي يخاطبه ترامب منذ العام 2015.
"رحلة غوليفر" ليست غريبة هنا، بل تمثل قمة القلق الشعبي الأميركي، الذي بات ترامب ونائبه فانس يمثلانهما اليوم، وهذا المجتمع هو مجتمع أقزام أميركا اليوم عندما يتعلق الأمر بسياسات "التقدميين"، التي تحكم الولايات الأميركية، كما يصفها فانس. في حين أن هؤلاء الأقزام يحرمون مما كفله لهم الدستور الأميركي من حقوق هاجر من أجلها آباؤهم إلى العالم الجديد وهي: الحق في الحياة والحرية والسعي وراء السعادة، فيما يرى أفراد الطبقات الفقيرة والمتوسطة من العرق الأبيض في المجتمع الأميركي، أن حق الحياة قد سلب منهم بسبب تدفق المخدرات إلى بيوتهم عبر الحدود الجنوبية، وتسلط كارتلات المخدرات والسلاح والتي تقتل أولادهم في كلّ يوم، وسلب منهم حق الحرية، لأنهم لا يستطيعون اليوم التعبير عن رأيهم وإلا سيواجهون تهمًا بالجهل والعنصري، وسلب منهم حق السعي وراء السعادة، وهم يتحولون إلى مجتمعات فقيرة، بسبب نقص العمل وتغير المعايير التي تكبلهم بقيود التقدميين وحتّى بقيود المحافظين من أبناء الطبقات الغنية، والذين لا يكترثون لأمرهم.
وأما التقدميون فالمقصود بهم الحزب الديمقراطي، ويقصد بالتقدميين أيضًا الليبراليون والليبراليون الجدد. وأما المحافظون فالمقصود بهم الجمهوريون من أبناء الطبقات الفاحشة الغنى، وهم بمعظمهم أصحاب شركات السلاح ومعظم المحطات التلفزيونية الشهيرة وبالأخص فوكس نيوز وأخبار NBC، وأخبار ABC، وأصحاب شركات النفط الكبيرة، والتي تمول الحملات الانتخابية لأمثال عائلة بوش وتشيني ووولفيتز وغيرهم وغيرهم، وهم يعدون اليوم طبقة متعالية على ناخبيهم البيض من الطبقات الفقيرة والمتوسطة.
نقول هذا الكلام، ليس لتبرير مواقف ترامب أو نائبه المرتقب جي دي فانس، بل لكي نفهم الخلفية التي جاء منها الرجلان والتي تعني كثيرًا ولأول مرة في سباق رئاسي أميركي حقيقي. وعلينا أن نضع نصب أعيننا حقائق تتعلق بهؤلاء القادمين، ولا يهم إذا ما كانوا متدينين أم لا، فترامب يتحدث عن أميركا على أنها أول ديمقراطية علمانية في الوجود، وفانس مسيحيى يذهب إلى الكنيسة. والمقصود هنا ليس فقط سبر الأغوار الاجتماعية لهذين الرجلين، ولكن لحْظ المفارقات المتعلّقة بهما. ومن هنا علينا أن نفهم لماذا اختار ترامب دي جي ليكون نائبه وليخوض معه التجربة الرئاسية خلال السنين الأربع القادمة. ترامب هو ابن لأب وأم مهاجرين، الأب ألماني والأم اسكتلندية، وفانس ذو أصول إيرلندية وزوجته من أصول هندية وهي بوذية.
استطاع فريد ترامب، والد دونالد ترامب، التطور في عمله من عامل للبناء ليصبح مقاولًا كبيرًا في مانهاتن في نيويورك، وأصبحت المنطقة من أهم مناطق نيويورك العمرانية. وأما فانس فقد جاء من منطقة تصنّف أنها "حزام البؤس" في تلال أميركا، فقد انتقلت عائلته من جاكسون كنتاكي، إلى مدينة أباليشيان والتي تقع في منطقة فقيرة أخرى في ميدلتون - أوهايو، حيث عانى من الفقر وغياب الأب، الذي رحل. أما والدته فقد عانى معها وجع الإهمال كمدمنة للمخدرات والكحول، ولكنه مع ذلك يقول إنها حاولت جاهدة توفير الطعام للعائلة، ولو عن طريق التفاوض وتقديم الخدمات مقابل الطعام.
وعندما بلغ فانس الحادية عشرة من عمره انتقل إلى بيت جده، فربته جدته، مامو، كما يسميها خلال مقابلاته، وفي كتابه "مرثاة هيليبيلي"، والذي حصد من ورائه سمعة وشهرة كبيرة كقارئ حقيقي لمآسي مجتمعه. وكان تأثير البيئتين المختلفتين هامًا جدًا بالنسبة لفانس في العام 2016، حين لم يكن مقتنعًا بترامب كممثل للولايات المتحدة، إلا أنه أقر ومنذ ذلك العام، بأن ترامب يفهم هذه الطبقة جيدًا ويعرف حاجاتها، ولا يخاطبها بتعالٍ، وهذا ما جعله يتبنى ترشيحه لانتخابات العام 2024.
"مرثاة هيليبيلي"، كتاب يجب الوقوف عنده، فقد روى فانس من خلاله سيرته الذاتية كطفل وصبي نشأ في ظروف صعبة، وكيف جاهد للتغلب عليها. كما قدم وصفًا من خلال الكتاب يشرح فيه أوضاع الناس الذين نشأ بينهم، وهو محاط بمجموعة من الشباب المتقاعس والمستسلم للمخدرات والكسل، والذي هو فاقد للأمل بسبب القناعة التي رسخت في بنيان المجتمع، بأنه إذا أردت تغيير حياتك فعليك الذهاب إلى الجامعة والسكن في مدينة كبيرة مثل نيويورك أو سان فرانسيسكو. ويبدو أن قليلين من هذه المدينة كانوا قادرين على التغلب على ظروفهم الاجتماعية القاسية ليغدوا قادرين على بناء مستقبل أفضل كما فعل فانس ومن ثمّ الوصول لمجلس الشيوخ لتمثيل مجتمعه فيه.
صدر الكتاب في العام 2016، وتحول إلى فيلم فيما بعد، وكان فانس وقتها في الثانية والثلاثين من العمر، ولكنه رسم قراءة واضحة حول مدى الوعي الذي يحمله الرجل لمجتمعه وبيئته ولأميركيته، وليس مستغربًا أن يكون قريبًا نائبًا لرئيس بلده.
يشرح الكتاب تبعات الانتقاد والسخرية، التي تعرضت لها وتتعرض لها البيئة التي ترعرع فيها، من قبَل الطبقة النخبوية السياسية في أميركا، وكان ذلك فاضحًا خلال السباق الرئاسي الذي جمع هيلاري كلينتون ودونالد ترامب، وفاز به ترامب في تشرين الثاني/ نوفمبر 2015.
لقد انتقدت كلينتون بتعالٍ سكان "حزام البؤس" الذين انتخبوا ترامب، ولكن رسالة فانس التي وجهت إليها من خلال الكتاب وعبر اللقاء الذي أجراه مع بيتر روبنسون في برنامجه "معلومات عامة" عبر موقع معهد هوفر، أنه "إذا أردت مساعدة الناس الذين أتحدّث عنهم، وإذا أردت النهوض بمستوى البلد الثقافي، ولو قليلًا، فعليك أن ترتقي بعملك ومقاومة غرور النخب فيك. وإذا أردت التعامل معهم على أنهم مشكلة يجب تجاوزها دون سبر أغوارها لفهمها، فإنك بذلك تقوم بتقسيم البلد". ويتابع فانس أنه لا يحب أمثال ترامب من الأغنياء الذين يعيشون في نيويورك، ومع ذلك فهو يقر لترامب في الوقت نفسه بأنه يفهم ناخبيه ويعرف حاجاتهم ويعرف كيف يتحدث بلغتهم دون التعالي عليهم.
خدم فانس في مشاة البحرية الأميركية، المتعارف عليها باسم المارينز، في العراق، وليس هناك الكثير حول خدمته هناك، ولكن بالتأكيد كانت محطة هامة في حياته، ومن المفترض أنه تعلم شيئًا حول دور القوات الأميركية كقوة محتلة خارج البلاد، ولكن وبحسب السياسات الخارجية التي تحدث عنها مؤخرًا في لقاء على فوكس نيوز، يتضح أن سياسة إدارة ترامب في الشرق الأوسط والتي يدعمها بالتأكيد، ينطبق عليها ما جاء في مقطع من مقاطع نشيد البحرية الأميركية: "انضممت إلى البحرية لأرى العالم، فلم أر شيئًا سوى البحر". فالكلام خطير، أن ينضم الأميركي إلى البحرية وأن يعود إلى بلاده دون أن يتعلم شيئًا.
التحاق فانس بالخدمة العسكرية مباشرة بعد إنهاء المرحلة الثانوية، تكمن أهميتها بأنها سهلت له، كما سهلت لكثيرين من ذوي الدخل المحدود جدًّا من الأميركيين، الفرصة للذهاب إلى الجامعة بمنحة يقدمها الجيش. فالتحق بجامعة أوهايو وحصل منها على البكالوريوس في العلوم السياسية وفي الفلسفة في العام 2003، أي أن فانس كان طالبًا متفوقًا حتّى استطاع إنهاء دبلومَين في آن معًا. ثمّ تخرج في العام 2013 من جامعة ييل المرموقة، وحصل منها على شهادة في القانون العام، ثمّ عمل محاميًا لشركات معروفة في وادي السيليكون في ولاية كاليفورنيا. هذه الشركات، التي يسميها في كتابه الذي تحدثنا عنه، بشركات "الوجوه المموهة".
نحن نكتب عن فانس، لنفهم الخلفية التي جاء منها الرجل والتي كانت أساسًا في تحديد أفكاره السياسية. فانس رجل من المحافظين يرفض السياسة التقدمية التي تحكم الولايات المتحدة اليوم، والتي تحاول تبسيط المشاكل التي تتعرض لها الطبقة المتوسطة في الولايات المتحدة. مشاكل تتعلق بأمرين هامين برأيه هما قوانين التجارة الحرة والهجرة غير الشرعية، واللتان ستأخذان المجتمع الأميركي نحو الخراب، خاصة وأن مبدأ التجارة الحرة أخرج المعامل والمصانع من الولايات المتحدة لتتمركز في مناطق يمكن فيها دفع مبالغ أقل لليد العاملة مثل الصين والهند. ومن هنا جاءت مواقف ترامب الحادة ضدّ الصين، والهجوم على شركات التكنولوجيا بشكل خاص، والتي نقلت معاملها إلى تايوان، على سبيل المثال، تاركة وراءها جيشًا من الشباب العاطل عن العمل في الولايات المتحدة، والتي لم تؤذِ بذلك البيض في أباليشيان فقط، بل جميع الفئات الفقيرة من مختلف الأعراق. لذلك علينا أن نفهم أن خلفية نائب الرئيس - في حال فاز ترامب - كانت عاملًا مهمًا مكّن ترامب كرئيس قادم أن يقدر أهمية التعاون والعمل معه، خاصة لناحية التواصل مع المجتمع الذي يفهمه فانس جيدًا.
هذا ما يمثله كلّ من ترامب وفانس بالنسبة للمجتمع الأميركي بالتحديد، ولكن هناك الكثير عن الأفكار التي طرحها الأخير خلال مؤتمرات علمية حول رأيه في السياسات التقدمية التي يطرحها التقدميون، حول الحركات النسوية والشذوذ الجنسي والنظام التعليمي وحماية المناخ وغير ذلك في الولايات المتحدة، والتي برأيه تطرح آراء هدامة في المجتمع الأميركي مما سيتسبب بانقسامه وبالفوضى الداخلية فيه. وقد كتبنا سابقًا أن "انهيار أميركا سيكون من الداخل" بسبب هذه السياسات "التقدمية". ولكن في ما يتعلق بالسياسات الخارجية وخاصة ما يتعلق منها بالشرق الأوسط فسياسة الديمقراطيين والجمهوريين ثابتة لا تتغير، وإن كانت بوجيهن مختلفين لعملة واحدة. ومن المهم أن يعرف القارئ العزيز أننا نكتب اليوم من أجل أن نفهم كيف تفكر أميركا كأميركا، وليس كما نظن أنها تفكر.
الولايات المتحدة الأميركيةدونالد ترامب
إقرأ المزيد في: نقاط على الحروف
22/11/2024
الإعلام المقاوم شريك الجهاد والتضحيات
20/11/2024
ما بين عامَي 1948 و2024 ما الذي تغيّر؟
20/11/2024
أن تصبح سردية العدو شغل LBCI الشاغل!
18/11/2024
عن قائد كتيبة الإعلام المحارب..
16/11/2024