نقاط على الحروف
لن أطلب هويتك!
طوابير طويلة اصطفت، والهدف معبر بيت ياحون. الشمس بدأت تضرب بسوطها وسطوتها على الوجوه والأجساد المتراصة في السيارات. يهبّ الغبار فنضطر إلى إغلاق النوافذ، ثمّ نعود ونفتحها لأن الوضع لا يطاق.
أم علي وأم حسين وأم وجدي وأم سلامة وأم رياض... أمهات كثر حملن الكثير من الشوق والأسى والصبر والانتظار ومواعيد وتصاريح تعطى وتلغى بمزاجية وغلّ، وفوقها كلها عقدن الأمل على لقاء "سيأتي يومًا يا أمي". كتب يومًا أسيري وأنا أصدق أسيري، وأحتقر سجانه، حتّى أنني لم أكترث لوعيده بأن لا لقاء ولو على جثته.
ها هي جثته مكدسة في شاحنة، تسكنها روح ذليلة عفا عنها أسيري وإخوته، لأن هذا شأنهم وديدنهم، فلا هم مرتزقة ولا هم عملاء، بل هم أهل الأرض، بل هم الأرض، وهي لا تلفظ أبناءها حتّى لو كانوا جيفًا نتنة!
فجأة تحركت السيارة. انقبضت القلوب، الموعد يقترب. أنباء عن استشهاد مقاومين وهم يدخلون بعض القرى. يا ويلاه! الشيخ أبو ذر جريحًا. قصفه العملاء من موقع حميّد ليمنعوه من بلوغ قريته رشاف.
كأنهم لن يرحلوا يا بُنيّ، قالت لسائق السيارة. تحسست بطاقة هويتها لتتأكد من وجودها. فهل يا ترى سأجد الآن أمامي عسكرًا على الحاجز يطلبونها، ويدققون في كلّ شيء؟.
يرهقون شيبتي وكَبْرتي. لم أعد أتحمل هذا يا بنيّ. بالأصل، أنا أقلعت عن زيارة قريتي بعد أن منعوا زيارة المعتقلين، حتّى لا أهان ولا أُجرح. كنت أتحملهم كرمى لعيني ولدي.
اهتزت السيارة، واندفعت باتّجاه مسند المقعد الأمامي، حتّى كاد رأسها يرتطم به. لمَ توقفت فجأة؟ لمَ يركض الناس إلى الخلف؟ هل...؟ أبشري يا حجة!، فتحوا الحاجز، هؤلاء كانوا قد نزلوا من السيارات بسبب الازدحام الشديد وتمشوا نحو المعبر ليتحرّوا الخبر، وها هم يهرولون نحو سياراتهم ليحثوا السير نحو الشريط الحدودي.
الشريط الحدودي! عبارة تبعث في النفس القلق والخوف. هل حقًا نحن نعبر بيت ياحون من دون معبرها؟ هل من هنا عبر صلاح غندور قبل 5 سنين وفجر جسده بالقافلة، وقبل 15 سنة مر الحاج سمير مطوط بالأسيرين، وعبرَ أبو خليل فقيه إلى رحاب الخلد؟ هل نحن الآن في الفضاء المحرم والمجال المسموم طيلة 20 عامًا؟ ترى كيف هو لون التراب؟ أي نسيم سيدخل إلى رئتيّ الآن؟
فجأة رأت شاحنة محملة بهم. عرفتهم من وجوههم المغبرة، فاليوم الوجوه مستبشرة، إلا من عبر نحو الوطن عكس السيْرِ والسِّيرة. ومع هذا شعرت برهبتهم. هؤلاء كانوا جبابرة الأرض، لقد علوا وعتوا كثيرًا، ولكنني كنت أعد نفسي وأتوعدهم وهم لا يتعظون.
توقفت السيارة قرب الشاحنة المتمايلة بسبب حفر الطريق. التفتت إلى يسارها وإذا بها وجهًا لوجه أمام آمر سابق على المعبر. تذكرته متعجرفًا يطلب هويتها. "بطّلْت تعرفني يا ابن فلان!... الله يرحم ستك كانت رفيقتي". "هويتك يا حجة وتصريحك". أما الهوية فلن أطلبها منك اليوم، وأما التصريح فلعله صالح لأكمل مشواري إلى فلسطين.
إقرأ المزيد في: نقاط على الحروف
20/11/2024
ما بين عامَي 1948 و2024 ما الذي تغيّر؟
20/11/2024
أن تصبح سردية العدو شغل LBCI الشاغل!
18/11/2024
عن قائد كتيبة الإعلام المحارب..
16/11/2024
ضاحية السيد: مدينة تسكننا!
16/11/2024
الانهزاميون ينتشون بفائض الحرب والتدمير
15/11/2024