نقاط على الحروف
مراجعة كتاب: من جمر إلى جمر.. صفحات من ذكريات منير شفيق (3/1)
مراجعة كتاب: من جمر إلى جمر.. صفحات من ذكريات منير شفيق (3/1)
د. شوكت أشتي
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
إذا كان "المكتوب يُقرأ من عنوانه"، فإن عنوان الكتاب واضح لدرجة الاكتمال، وكاشف للمضمون، وعاكس لمرحلة لا نزال نعيشها. وإذا كان طريق النضال لتحرير فلسطين، طريق "الجُلجلة" والمعاناة والألم، فإن اللحظة التي نمر بها، مع قطاع غزة ومواجهة المقاومين في حماس، "كتائب الشهيد عز الدين القسّام"، والجهاد الإسلامي، وبقية فصائل المقاومة الفلسطينية في القطاع والضفة الغربية، تؤكد أن الشعب الفلسطيني، لم يزل، قابضًا على الجمر، بكل إباء وكبرياء ومتمسكًا بقضيته بكل إيمان وقوة، ومزروعًا في أرضه بكل عنفوان، ومواجهًا للعدو الصهيوني بكل عزيمة وثبات.
فأمام حرب الإبادة الجماعية، غير المسبوقة، ضدّ المدنيين العُزّل من الأهالي في القطاع، وضدّ مرافق الحياة كلها: الصحية والتربوية والاقتصادية والثقافية والمعيشية والبيئية.... والمراكز الدينية، منذ عملية طوفان الأقصى (7 تشرين الأول 2023)، وضد الضفة الغربية، أن الشعب الفلسطيني ومقاومته الباسلة، لحدود المعجزة، والصامدة لدرجة الخيال، قادر على التصدي لأشرس أنواع الحروب الموجهة ضدّ الإنسانية، والمتجاوزة لكل المواثيق والأعراف والقوانين الدولية، تحت أنظار قادة العالم "المتحضر"، وعلى رأسهم الولايات المتحدة الأميركية.
من هنا يأتي كتاب منير شفيق، في لحظة مفصلية، مُعبرًا عن بعض من المعاناة، وعاكسًا لقساوة المراحل السابقة، ومظاهر تَجسُّدها في هذه اللحظة، وفاتحًا الآفاق الرحبة، والمتفائلة بقدرات الشعب الفلسطيني على المواجهة والصمود، انطلاقًا من تجربة غزة، التي كان قد أكد عليها في متن الكتاب قبل عملية طوفان الأقصى، خاصة وأن صاحب الذكريات مشهود له نضاليًّا وأخلاقيًّا. في إطار هذا التصور، يمكن مراجعة الكتاب، انطلاقًا من عرض مضمونه العام، بشكل متسلسل، وصولًا إلى مناقشتها ضمن عنوان الملاحظات الأولية في نهاية هذه المراجعة، وهي على النحو الآتي:
التردد في الكتابة
لم يكن منير شفيق راغبًا، أو مقتنعًا، في كتابة مذكراته، رغم إلحاح العديد من الأصدقاء عليه. غير أن الأديب نافذ أبو حسنة قام بهذه المهمة، مستعينًا بمجموع المقابلات الشخصية التي كان منير قد أجراها، والتي تجاوزت المئة مقابلة، مع أكثر من وسيلة إعلامية، وقدمها له، حيث اطلع عليها صاحب الذكريات ودققها "حرفًا حرفًا"، فغدت وكأنه هو من كتبها، لكن بأسلوب أدبي مميز.
من البداية يُعلن صاحب الذكريات تواضعه، من خلال التنبيه إلى أن ما يُقدمه هو "على الضّدّ من مذكرات الساسة". لأنها "فقيرة في الكشف عن معلومات سرية، ووقائع غير معروفة". باعتباره لم يكن في "موقع الصف الأول أو من المقربين منهم"، الأمر الذي وسم الذكريات بالطابع التحليلي وتقدير الموقف، ممّا يجعلها "رؤية وتجربة نضالية وفكرية يسارية وقومية عربية وفلسطينية وإسلامية"، طوال مرحلة ممتدة نحو سبعين عامًا، من نكبة فلسطين العام 1948 ولغاية العام 2020.
وعليه نكون أمام نص له خصوصيته النضالية، بعيدًا عن الادعاء و"التضخيم"، يتصف بالصراحة والوضوح، في سرد العديد من التفاصيل، والأهم في إظهار هذا المسار "المتحول" من فضاء فكري إلى آخر، دون مواربة أو إخفاء. وهذا ما تحتاجه المكتبة العربية لمعرفة المزيد عن مراحل ومحطات مفصلية، في مسيرة النضال، باتجاه تحرير فلسطين "من النهر إلى البحر".
المرحلة الأولى
أبصر منير شفيق النور في الشهر الثاني من العام 1936، من أسرة أرثوذكسية، في حي "النّمارة بالبقة التحتا"، أحد أحياء مدينة القدس الغربية، التي كانت تسمى "القدس الجديدة". وانتقلت العائلة مباشرة إلى "حي القطمون"، حيث أمضى المراحل الأولى من طفولته حتى عام النكبة. وقد صبغت هذه الفترة حياته "على نحو خاص"، أمضى بها "العمر كله".
العائلة كانت ميسورة، ممّا سمح لهم بالسكن في حي القطمون، الحي "الفخم جدًا"، الذي يعتبره البعض "الحي رقم واحد"، وهو حي مختلط من المسيحيين والمسلمين. والده كان محاميًا مشهورًا، ميوله ماركسية، وكان يركز على تحفيظه آيات من القرآن الكريم، والشعر. وعند حفظه آية من القرآن الكريم، أو بيت من شعر يُعطيه "قرشًا فلسطينيًّا". وقد كان الوالد يصطحبه معه إلى المحاكم، وهو لم يزل طفلًا، ممّا أتاح له التعرف على العديد من مناطق فلسطين، وأكسبه معرفة ثقافية وفكرية وسياسية، تميزه عن أبناء جيله.
عاش منير طفولة سعيدة، قبل النكبة، وسط بيئة عائلية ومجتمعية حاضنة ومتضامنة، ويوضّح مساراتها بدءًا من ألعاب الطفولة والرفقة في الحي، إلى مدرسة المطران، إلى زياراته لجدته وعمّاته في حيفا والناصرة، ولاحقًا إلى بيروت في بداية الخمسينيات. غير أن السياسة فرضت نفسها على الأطفال في تلك المرحلة، الأمر الذي جعله، وجيله، "يكبر بسرعة"، ويعيش "الهّم العام"، وهذا ما ترك بعض الآثار السلبية على حياته لاحقًا، لأن فترات من الطفولة والشباب الباكر، لم يعشها.
ومن اللافت للنظر قبل قرار التقسيم (29 تشرين الثاني 1947)، وبعده، مجموعة من المعطيات تكشف عن طبيعة تلك الفترة وأحداثها، لعل من أبرزها الآتي:
- أن المسيحيين في فلسطين كانوا يرفضون تمامًا أن يسكن بينهم أي شخص يهودي، على عكس المسلمين الذين كانوا أكثر تسامحًا في الثلاثينيات والأربعينيات من القرن المنصرم.
- أن الصهاينة كانوا، في نهاية الأربعينيات، يقومون بالاعتداءات والمناوشات ضد الفلسطينيين. ويشير إلى عمليات القنص على حي القطمون، وتفجير بعض الفيلات والمحال...
- أن اليهود الصهاينة كانوا يدربون شبابهم على استخدام السلاح.
- أن قرار التقسيم، رغم كونه مرفوضًا بالإجماع، كان البعض معه "همسًّا"، منهم والده الذي كان يرى ضرورة قبوله، ليس بسبب تأييد الاتحاد السوفياتي فحسب، وإنما أيضًا وفق حسابات موازين القوى، بالنسبة للدول العربية والفلسطينيين أنفسهم، مقارنة بالصهاينة وجيش "الهاغانا" واستعداداتهم، ودعم الحلفاء لهم، وما يقدمه البريطانيون لهم من عتاد وأسلحة... غير أن هذا الموقف "الهامس" لم يمنع، مُطلقًا، من مساندة المقاتلين الفلسطينيين الذين يواجهون الصهاينة، حيث كانت "حاكورة" بيتهم أحد مواقع المواجهة.
- أن قوات الجهاد المقدس كانت التشكيل الفلسطيني الأبرز في مواجهة المحتلين.
- أن العمل لتأمين السلاح كان صعبًا جدًا، خاصة وأن الانكليز كانون يسجنون أي فلسطيني يحمل خنجرًا "شبرية".
- أن عددًا من الحقوقيين حاول رفع قضايا ضد الانتداب البريطاني، بسبب احتلال "القدس الجديدة"، ومناطق أخرى كانت في عهدتهم، لكن القضاء البريطاني تهرب من اتخاذ قرار في قضية واضحة. لأن بريطانيا كانت المسؤولة حتى أيار 1948.
يلاحظ، دون أي جهد يُذكر، أن العديد من هذه المعطيات لم يزل قائمًا وبقوة، لجهة الدعم الغربي غير المحدود للكيان الصهيوني، رغم كل جرائمه بحق الشعب الفلسطيني.
اللجوء الأول
غادرت العائلة (الوالدة وشقيقتاه سميرة ونهلة وأخاه الصغير جورج)، حي القطمون، باستثناء الوالد الذي لحق بهم بعد الاحتلال، بتاريخ 28 نيسان 1948، أي قبل سقوط الحي بيومين. لكن الحي وفلسطين لا يزالان يسكنان حياته حتى الآن. وقد كان اللجوء الأول، إلى مدينة الزرقاء في الأردن، حيث استضافهم صديق الوالد في بيته "ريثما تنتهي الحرب".
بدأت أحوالهم تتغير، كما تغيرت أحوال الأقارب والجيران والنازحين كافة. لكن لم تصبح العائلة لاجئة في الخيم، كغيرها. وقد رفض الوالد تسجيلهم في قيود النازحين والحصول على بطاقة مساعدة، لأنهم لم يكونوا بحاجة للمساعدة. لكن إصرار أحد أصدقائه، غيّر وجهة نظره، وعمد إلى تسجيلهم، غير أن بطاقة المساعدة قدمها الوالد لأحد معارفه. وعليه استأجر الوالد بيتًا واسعًا، وبدأ ممارسة مهنته كمحام. أما منير شفيق، فلم ينقطع عن التواصل مع مخيمات اللاجئين في مدينة الزرقاء، وكان يتابع أوضاعهم وظروف حياتهم الصعبة.
اكتسب والده شهرة واسعة، وانتقل إلى عمان. غير أن باتريك، مدير المخابرات الأردنية، البريطاني الجنسية في ذلك الوقت، أعلمه بأنه شخص غير مرغوب فيه في شرق الأردن وفي عمان بالتحديد، وعليه العودة إلى القدس. وقد جاء هذا القرار بعد أن طلب باتريك من الوالد "تقديم الولاء للملك عبد الله"، فسأله الوالد: بأي قانون يُفرض هذا الأمر؟ فرد باتريك، لا قانون. وهكذا عادت العائلة إلى القدس، بعد عشرة أشهر من السكن في مدينة الزرقاء، ومن المؤكد إنه لو وافق الوالد، على تقديم الولاء، فهذا كان سيفتح الآفاق الواسعة أمامه ليصبح، مثلًا، وزيرًا بأيام معدودة.
موازين القوى
العودة إلى القدس كانت كارثية في المجالات كافة، وقد ترافق ذلك مع اشتداد المعارك، حيث أظهرت الذكريات العديد من المعطيات المهمة، من أبرزها، الآتي:
- صمود المجاهدين، ومقاتلة الجيش الأردني معهم، رغم أن الجيش بقيادة غلوب البريطاني. وهذه تُثير وضعية صادمة ومتناقضة.
- اعتقاده بوجود قرار بريطاني، بمنع سقوط القدس القديمة بيد الصهاينة.
- الإعلان عن توحيد الضفتين في مؤتمري عمان وأريحا. وقد اصطحبه والده معه لحضور المؤتمرين.
- أن موازين القوى، في حرب 1948، كانت لصالح الصهاينة ومقاتلي الهاغانا، تسليحًا وقدرات وامكانيات...، مقارنة بالجانب الفلسطيني وقوات الجهاد المقدس، والقوات التي كان يقودها فوزي القاوقجي، وحتى الجيوش العربية.
إن أسباب الهزيمة، برأيه، تعود إلى احتلال البلاد العربية، من قبل بريطانيا وفرنسا وإيطاليا، بعد الحرب العالمية الأولى، وما ولّدته اتفاقية سايكس- بيكو، وقيام دول التجزئة وانضمام الاتحاد السوفياتي بدعم قيام دولة الكيان الصهيوني... هذا الاختلال الفاضح في موازين القوى، والوضع الدولي الذي كان كله ضدنا، يجعل من الخطأ، كما يقول، الغرق في تفاصيل الكلام عن الخيانات والمؤامرة. غير أن هذا كله لا يعفي من الأخطاء والنواقص من "جانبنا".
- غنى أرض فلسطين، قبل النكبة، وجذبها للكثير من السوريين واللبنانيين والأردنيين. لدرجة أن زواج امرأة فلسطينية من أبناء هذه الدول، هو مصدر للأمان والاستقرار.
الانتساب للحزب الشيوعي
كانت العودة إلى مدينة القدس محطة مفصلية في "تموينه" السياسي والثقافي، فقد تابع دراسته في المدرسة الرشيدية الرسمية، الأقل تكلفة، ماديًا، من المدرسة الخاصة. هذه المرحلة كان لها تأثير مهم، على الأقل، بمسألتين: الأولى، اقتناعه أن "برامج المدارس كلام فارغ، لا تُشكل وعيًا، ولا ثقافة حقيقية، هي تؤهل"، بالدرجة الأولى، مُستندًا (سيناقش هذا الموقف في سياق المراجعة)، إلى أن ما تعلمه من والده، جعله متميزًا مقارنة بزملائه. المسألة الثانية، تعميق وعيه ومشاركته السياسية. فقد كانت المدرسة، ساحة للنشاط السياسي والحزبي، ولمختلف الأحزاب، الشيوعي، البعث، حزب التحرير، القوميين العرب.
من هنا فإن أساتذة المدرسة لم يؤثروا في بناء شخصيته، بشكل كبير، مقارنة ببعض قادة الحزب الشيوعي الأردني. وبالتأكيد تأثر بالوالد، الذي ترك أكبر الأثر في التكوين، والتثقيف، والتعليم، ونمو الشخصية. لكن هذا الدور المميز لم يحل دون الخلاف مع الوالد، الذي يمكن تلخيصه بأمرين:
الأول، تخوف الوالد، ذي الثقافة الماركسية، من أن "أصير شيوعيًّا"، وتحذيره من "الانخراط في العمل السياسي النضالي الحزبي". ورغم ذلك، قدم طلب انتساب للحزب الشيوعي في العام 1952. غير أن مسؤولي الحزب، في مدينة القدس، ترددوا في قبوله، كونه من عائلة ميسورة. لذلك وضعوه "تحت الاختبار مدة طويلة"، إلى أن حسم الموضوع الأمين العام فهمي السلفيتي، وتمت الموافقة على طلبه في منتصف العام 1952.
الأمر الثاني، عدم تلبية رغبة الوالد في متابعة الدراسة الجامعية في جامعة دمشق، ليكون محاميًا والانضمام إلى مكتبه كمحام متدرّب.
وعليه أصبح عضوًا متفرغًا في صفوف الحزب، وخاض نضالًا قاسيًا، ومشهودًا له، فتعرض للسجن عدة مرات، دون أن يُقدم أي تنازل، ولو شكليًا، للسلطات الاردنية، حيث وصلت فترات سجنه إلى ما يقارب إحدى عشرة سنة. فقد علّمه الحزب "الصلابة والاستعداد للتضحية"، مُشيرًا إلى العديد من التفاصيل في مسيرته النضالية "الحزبية"، خارج السجن وداخله.
مرحلة الخمسينيات
إن كثافة المعطيات التي قدمها، حول يوميات النضال السياسي في أحزاب مرحلة الخمسينيات، جديرة بالمتابعة والاهتمام. فقد اتسم عملها بالجدية والنشاط والتضحية، حيث أسقطت عددًا من المشاريع ضد الأمة العربية، منها: حلف بغداد العام 1955، و"مشروع جونستون" بين العامين 1953 و1955، الهادف إلى توطين اللاجئين الفلسطينيين، إضافة إلى تحقيق إنجازات مهمة منها: طرد غلوب باشا، وتعريب الجيش الاردني، حصول الانتخابات النيابية في الأردن العام 1956، التي اتسمت بالديمقراطية وفاز فيها نواب وطنيون، وتشكيل حكومة وطنية... وكان الحزب الشيوعي الاردني رائدًا في نضاليته.
ويشير إلى أن الحزب الشيوعي، كغيره من الأحزاب في تلك المرحلة، لم يكن الجانب الفكري فيه متجذرًا من جهة، وكان قبوله قرار التقسيم من أهم المداخل لمهاجمتهم بشدة، من قبل القوميين العرب، وخاصة البعثيين، من جهة ثانية. لكن قيادة الحزب بقيت مقتنعة بصوابية هذا القرار، لدرجة أن الحزب لم يصدر برنامجه بسبب الخلاف داخله حول هذه النقطة. ومن الجدير الاشارة إلى أن موقف الحزب قبل العام 1947 كان ضد إقامة "دولة إسرائيل"، وهذا كان منسجمًا مع موقف الاتحاد السوفياتي، والأممية الثالثة (الكومنترن). غير أن الموقف سرعان ما تغير بين عشية وضحاها. وفي هذه النقطة يذكر أمرين: الأول، مؤكد، يتعلق بالحزب. الثاني، يستند إلى التحليل، يتعلق بالاتحاد السوفياتي.
الأمر الأول، رواه فؤاد نصّار (الأمين العام للحزب) لصاحب الذكريات، بأنه كتب افتتاحيته لجريدة الاتحاد، التي كان يرأس تحريرها، يصف فيه قرار التقسيم بالاستعماري البريطاني، لكن في الساعة الرابعة صباحًا أيقظه عامل المكتبة، قائلًا: الرفيق غروميكو، مندوب الاتحاد السوفياتي، وافق على قرار التقسيم، وعند تأكده من الخبر، سحب المقالة وكتب أخرى بعنوان "قرار التقسيم في مصلحة الشعبين الشقيقين اليهودي والفلسطيني"، مُبرّرًا – أي نصّار- موقفه الذي لم يستشر فيه أحدًا، أنه "طالما وافق الرفيق ستالين" فعلى الجميع أن يوافق.
الأمر الثاني، يُدرجه كاستنتاج، بأن سبب تغيير موقف الاتحاد السوفياتي، يعود، حسب رأيه، إلى أن الصهاينة باعوا إلى ستالين "مخطط القنبلة النووية مقابل فلسطين"، بدليل أن الأمريكيين اكتشفوا بعد تفجير السوفيات القنبلة النووية الأولى في ترسانتهم، أن الزوجين "روزنبرغ" اليهوديين، سلّما الوثائق الخاصة بالقنبلة للاتحاد السوفياتي، حيث حُكم عليهما بالإعدام، في الولايات المتحدة، بعد اعترافهما. وقد قاد الحزب الشيوعي في الاردن، حملة توقيعات في العامين 1951 و1952، لإطلاق سراحهما، بحجة أن فعلتهما عمل "إنساني لأجل التوازن... أنهما أنصار للسلم".
التحول الفكري
تبلورت لديه الارهاصات الأولى للتحول الفكري داخل السجن، وتجسدت عمليًّا خارجه. داخل السجن، بدأت عندما كان يشرح لرفاقه "الديالكتيك والمادية التاريخية"، حيث لاحظ أن بعض إجاباته عن أسئلة الرفاق غير مُقنعة، وترافق هذا مع بعض المظاهر السلوكية، التي تحمل دلالاتها المُعَبِّرة جدًا، منها حادثتان: الأولى، بعد تعيينه في اللجنة القيادية في المُعتقل، في إثر نقل القيادة من سجن الجفر إلى عمان، أصبح الرفاق يقفون له عند دخوله المهجع، ما أثار استغرابه، ولم تنفع محاولاته إقناع رفيقيه في القيادة، داخل السجن، بوقف هذا الإجراء. الثانية، أن عملية نقل الهيئة القيادية، أثارت الشكوك حول رفيقين يتعاونان مع السلطة، الأمر الذي أدى إلى مقاطعتهما، ليتبين لاحقًا عدم صحة هذا الاتهام، ورفض رفيقاه في القيادة، داخل السجن، الاعتذار منهما. وفي كلا الحادثتين، لم يقتنع بالتبرير الذي قدمه رفيقه في القيادة، المستند إلى مقولة ضرورة المحافظة على "هيبة" الحزب، و"الالتزام" الحزبي. غير أن الحادثين تركا أثرًا في نفسه، وقرر أن لا يلتزم بأي قرار لا يقتنع به.
أمّا خارج السجن، بعد الأفراج عنه في العام 1965، فقد توسعّت مجالات نقاشاته النقدية. فإذا كان النقاش داخل السجن محصورًا مع رفيقيه في القيادة حتى لا يؤثر سلبًا على معنويات الرفاق، فالأمر اختلف خارجه. فقد كانت لقاءاته مع فهمي السلفيتي (الأمين العام) حاسمة، حيث تبين أن السلفيتي يُمرر الوقت، وغير جدي في قبول ملاحظاته النقدية. إذ رفض تدوين ما تمت الموافقة عليه من مواقف وآراء، ما أدى إلى خروجه من الحزب كليًا ونهائيًا، وغادر "موقع المناضل الجيد".
تعددت مجالات خلافه مع الحزب الشيوعي، وتداخلت فيما بينها،، حيث رفض الهجوم الشديد على الوحدة المصرية السورية، والرئيس جمال عبد الناصر، وتفضيل عبد الكريم قاسم عليه. وازداد خلافه في إثر فشل التجربة الوحدوية، واعترض على اتهام عبد الناصر بـ"الأمركة". واستعاد مهاجمة قبول السوفيات قرار التقسيم، رافضًا التبعية الفكرية والسياسية القائمة، ناقدًا النظرية والتفسير الطبقي التبسيطي، ومعترضًا على غياب البرنامج الحزبي، داعيًا إلى ضرورة "زرع" الفكرة لتصير عربية أصيلة...
- الهروب إلى بيروت
لم يكن خروجه من الحزب هروبًا، بل مُنطلقًا للبحث عن إضافات، تساهم في تحقيق الاستقلالية الوطنية، وتؤصل المسار الثوري. لذلك لم يخضع هذا التحول، منذ الارهاصات الأولى، وما أعقبها، لمغريات من أي نوع كانت، أو تؤدي إلى الجمود والانعزال، أو الاستراحة والتنكر لماضيه... من هنا بدأ التفكير بالهروب إلى بيروت. وقد نجح بمساعدة صديقه، حيث بدأت مرحلة جديدة.
في بيروت حضنته شقيقته سميرة وزوجها ناجي علوش. وكانت المفاجأة الأولى لحظة وصوله إعلامه، أنها قامت بتسجيله، وتسجيل زوجها في جامعة بيروت العربية، لإكمال دراستهما. وفي بيروت، كان تأثير ناجي علوش ودوره إيجابيًّا، سواء في المساعدة، أو تأمين العمل والدعم، أو في إدخاله في البُعد الفلسطيني الفتحاوي. ومن هنا بدأت المرحلة التالية في مسار حياته. وقد بقي على وئام تام معه، إلى أن اختلفا، لاحقًا، حيث كان قرار "عزل حزب الكتائب"، بعد مجزرة بوسطة عين الرمانة بعد 13 نيسان 1975، "أصل الخلاف"، إذ اعتبره ناجي "موقفًا صحيحًا"، بينما اعتبره منير "ضد مصلحة لبنان عمومًا، وضد الثورة الفلسطينية خصوصًا"، ثم سرعان ما "تطوّر إلى خلاف حول قضايا كثيرة".
تجسيدات التحول
إن منطلقات تحوله الفكري اتخذت تجسيداتها العملانية في مقاربة الأحداث التي كانت تعصف في المنطقة، على أكثر من صعيد، ولعل من أبرزها هزيمة الخامس من حزيران 1967. فقد اعتبرها حدثًا طبيعيًّا، في ظل موازين القوى القائم، والتي لم تكن في مصلحة جمال عبد الناصر والجيش المصري. وهذا ما حصل في نكبة 1948، أيضًا. غير أن الخامس من حزيران، من وجهة نظره، ليس هزيمة شاملة، بل مجرد هزيمة عسكرية أو نكسة، حققت "نهضة شعبية" ضخمة، وعمقت إرادة هائلة للصمود والمقاومة، تمثلت في "دخولنا مرحلة جديدة هي مرحلة الارادة الشعبية" والمقاومة السياسية والمسلحة. لأن غياب فكرة الاستناد إلى الشعب وتسليحه وبناء قوة شعبية، هي السبب في اختلال التوازن والهزائم. وبالتالي فإن الاعتماد الكامل على "الجيش والدولة" وتغييب فكرة "تسليح الشعب، وبناء قوة شعبية"، هي التي أطاحت بتجربة عبد الناصر، كما أطاحت سابقًا بتجربة محمد علي. ولا يُلغي هذا التحليل "حقيقة أن عبد الناصر وقع في أخطاء".
هذا المنحى في التفكير السياسي استند إلى تجربتي فيتنام والصين، ثم ما جسدته تجربة المقاومة الفلسطينية، من خلال حركة حماس والجهاد الإسلامي في غزة، وكذلك تجربة حزب الله في لبنان. وعليه لا علاقة آلية بين الديمقراطية والحرب، أو بين الاستبداد والحرب. فغياب الديمقراطية ليس سبب الهزيمة، والأمر ذاته ينطبق على مقولة البورجوازية الصغيرة وغياب البروليتاريا، أو القول بأن الحل بالماركسية اللينينية. لأن هذا الاتجاه تفكير معزول في منطلقه عن الشعب والثورة. معتبرًا أن تحول القوميين العرب (الجبهة الشعبية والديمراطية) إلى الماركسية لم يكن ناجحًا، لأنه أبعدهم عن جزء من قواعدهم وقياداتهم القومية. في إطار هذا الفضاء كان انخراطه في حركة فتح مرحلة جديدة.
إقرأ المزيد في: نقاط على الحروف
20/11/2024
ما بين عامَي 1948 و2024 ما الذي تغيّر؟
20/11/2024
أن تصبح سردية العدو شغل LBCI الشاغل!
18/11/2024
عن قائد كتيبة الإعلام المحارب..
16/11/2024
ضاحية السيد: مدينة تسكننا!
16/11/2024
الانهزاميون ينتشون بفائض الحرب والتدمير
15/11/2024