معركة أولي البأس

نقاط على الحروف

الضاحية.. على حبّ الحسين(ع)‎
19/07/2023

الضاحية.. على حبّ الحسين(ع)‎

ليلى عماشا

اكتست الضاحية بالأسود البهيّ وتجلببت بالحزن الجميل وأعلنت كما في كلّ مرّة هلّ فيها هلال محرّم أنّ هويّتها عشقٌ كربلائيّ مقاوم، وأنّها مدينة الحياء النقيّ في حضرة عاشوراء، وأنّها، على حبّ الحسين (ع)، تحترف الحبّ والمواساة.

ما إن اقتربت ساعات المساء وبدأت مجالس الليلة الأولى من محرّم، حتى تحوّلت الشوارع إلى ما يشبه بيت عزاء كبير. لباس معظم المارّة أسود والوجوه مسكونة بالوجع وبالشوق، حركة المتطوعين في المضائف في كلّ الأحياء دليل عشق يتنافس فيه أهل الحداد. يحمل بعضها أسماء شهداء كمضيف الشهيد محمد السيّد في الشياح، ومضيف الشهيدين ياسر ضاهر وحسن زبيب في المريجة، كي يقوم الشبّان القيّمون عليه بما كان الشهداء سيفعلونه في عاشوراء، وبعضها يختار من أسماء أهل البيت عنوانًا له ليقول للجميع إنّ كلّ ما يقدّم ها هنا هو باسم صاحب الاسم الشريف والمقام العظيم. والجميع، بنشاط وحبّ، يقدّمون إلى كلّ من يمرّ ماء وطعامًا ممّا تيسّر، وفيض حبّ عاشورائي يغمر العالم بأسره.

هذه المدينة، هذه الضاحية، هذه القطعة الجغرافية تبوح في عاشوراء بالكثير الكثير من النقاء الذي يكثّفه الحزن فيجعله لمّاعًا ويُنسي، حقًّا يُنسي، كل التفاصيل التي تبدو في سائر الأيام موجعة ومنفّرة. يحتلها دفءٌ ساطع يبدو وكأنّه بعض من عطر كربلاء، ويصير منسوب الحنان فيها أعلى وأعمق.

أطفال وشبّان وشابات ورجال ونساء، الكلّ يلفّ وجهه بملامح الحزن العالية. عيون تلمع خلف ظلال الدمع، أصوات العزاء تصدر من كلّ الجهات ومن كلّ القلوب. يسير الناس مواكب أو فرادى، كلّ باتجاه بيت أو حسينية أو قاعة تحيي المجالس وتجدّد الولاء لصاحب العزاء، لصاحب الزمان (عج). تتلى السيرة في كلّ دار، وصوت اللطم الموجع يجول في كل الأحياء، يحيي الدمع الحبيس، ويحيي القلوب.

قبل سنوات، كانت الضاحية وأهلها في أعلى "بنك أهداف" الإرهاب التكفيري. كثرت في ذلك الحين الرسائل التي تهدّد هذه المدينة الصغيرة وتعدّ العدّة لذبح رجالها وسبي نسائها. تفجيرات ومفخّخات، ترويع وترهيب عبر فيديوهات ومقاطع مصوّرة تعد أهل الضاحية بالقتل وبالدمار. لكن "هيهات مِنّا الذلّة" بقيت صوتنا الأوضح، فردّت كيد التكفير إلى نحره، وقالت له بصوتٍ زينبيّ مقاتل: "كِد كيدك واسع سعيك وناصب جهدك، فوالله لا تمحو ذكرنا ولا تميت وحينا…". صور الشهداء التي لا يخلو منها شارع في ضاحية الحبّ تحكي حكاية ردّ هذا الكيد وخلود ذكر أهل البيت (ع).

وقبلها، كانت الضاحية وجهة الطائرات المعادية والبوارج الغادرة في تموز ٢٠٠٦. أراد العدو في ٢٠٠٦ سحق الضاحية وتسوية كلّ بيوتها بالأرض عسى يفلح في انتزاع حبّ المقاومة من قلبها، فأبت وصرخت بصوت الحاجة كاملة سمحات: "فدا اجر المقاومة".

بقيت الضاحية حيّة بقلبها المقاوم، لملمت ركام جرحها وبيوتها، والسند الذي ما غاب عنها في أحلك ليلات القصف، الحاج قاسم، حرص على أن يتابع بنفسه كلّ التفاصيل التي تعيدها أجمل مما كانت... وعادت.

يُحكى كثيرًا عن الضاحية، عن الاكتظاظ الهائل فيها، عن غياب التنظبم المدني في غالبية أحيائها، عن النشاط المشبوه للعصابات (وإن لم يكن أكثر منه في سائر المناطق نسبيًا). تعرّض أهلها للتنميط وللاستهداف الثقافي والإعلامي المسيء على مدى سنوات. أكل الفقر من قلوبهم بعد بلوغ الأزمة المعيشية التي سبّبها الحصار أبشع مراحلها. تستقبل عددًا هائلًا من النازحين السوريين الذين يمنع الغرب الإرهابي عودتهم إلى بيوتهم الآمنة في سوريا، ترزح تحت ثقل الأزمة في كلّ يوم أكثر. ورغم كلّ ذلك، ترى أهلها يبدعون في صياغة الحبّ إطعامًا على حبّ الحسين (ع)، ويتنافسون في صناعة المشهد الأجمل للحزن الحيّ في أرواحهم، وفي نظمِ العشق الثوري قصائد ولطميات وكلمات وأدعية.

في الضاحية، منذ ليل الأمس وحتى الانتهاء من الإحياء العاشورائي، كلّ تفصيل ينطق بكلّ ما في روح النّاس إذا ذُكرت كربلاء. هنا، يستحيل المكان كلّه قلبًا شهد ظلم مولاه الحسين (ع)، ففُجع حتى ملأ الأرض بدمعه وبحزنه وبعشقه، وصرخ بكلّ ما يضجّ فيه من دمٍ وولاء "لبّيك يا حسين…".

إقرأ المزيد في: نقاط على الحروف